الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن قطب رحى الشريعة ومقصدها الأسمى: إخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له، وسد الذرائع إلى الشرك دقه وجله؛ فهذا أصل دين المرسلين، وحقيقة توحيد رب العالمين.
والحج إلى بيت الله الحرام يتجلى فيه هذا المقصد بوضوح؛ إذ التوحيد لحمة الحج وسداه، وغايته ومبتدأه ومنتهاه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فالمقصود من الحج: عبادة الله وحده في البقاع التي أمر بعبادته فيها؛ ولهذا كان الحج شعار الحنيفية، حتى قال طائفة من السلف: (حنفاء لله) أي: حجاجًا) اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٨٤٠ (١)
وصدق رحمه الله؛ فارتباط الحج بالتوحيد ارتباط وثيق؛ وكفى دليلا على ذلك أن البيت العتيق الذي يؤمه الحجاج إنما رُفع على أساس متين من التوحيد الخالص؛ قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا قال ابن عطية: (أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده) المحرر الوجيز ١٣٠٨ (٢)
ولهذا فإن الحجاج حقا ليسوا إلا أهل التجريد والتوحيد؛ قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهم يؤمون بيته ويبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه، ولا يخافون إلا إياه) اقتضاء الصراط المستقيم ٢/٨٥١ (٣)
ولذا فإن الحاج لا يضع قدمه الأولى في هذه العبادة الجليلة إلا وقد رفع صوته بإعلان إخلاصه الدين لله، وثباته على هذا العهد المتين: "لبيك لا شريك لك لبيك".
هذا وإن تحقيق التوحيد في عبادة الحج له صور كثيرة؛ من أهمها: القصد إلى مخالفة المشركين.
وهذه القضية لها دلائل كثيرة؛ حتى أضحت من مقاصد الحج البينة، ودروسه الواضحة، قال ابن القيم رحمه الله: (الشريعة قد استقرت –لا سيما في المناسك- على قصد مخالفة المشركين)تهذيب السنن ٢/٣١٠ (٤)
إن المتأمل في هدي النبي عليه الصلاة والسلام في المناسك ليتبين له بوضوح أنه كان متجافيا عن مشابهة المشركين، مبديا مخالفتهم، وما ذاك إلا لأن مشابهتهم أساس الشر ومكمن البلاء، وما أحسن قول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: (أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي: التشبه بالكافرين) الدرر السنية ١١/٣١٤ (٥)
فالحكمة كل الحكمة أن يتميز الهدى عن الضلال، والخير عن الشر، والعلم عن الجهل، والنور عن الظلام.
ولقد أعلن النبي عليه الصلاة والسلام هذا المبدأ العظيم في خطبة عرفة –أعظم مجمع ديني، وأشرف منتدى إسلامي- حين قال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) أخرجه مسلم (١٢١٨) ضمن حديث جابر رضي الله عنه المشهور. (٦)
قال أبو العباس ابن تيمية: (هذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات) اقتضاء الصراط المستقيم ١/٣٠٥ (٧)
والمقصود بذلك –فيما يتعلق بالمناسك-: ما أحدثوه وغيروه من شريعة إبراهيم عليه السلام وسنته في الحج؛ فتحرم مشابهتهم فيه، دون ما كان مشروعا في ديننا وهم يوافقوننا عليه، مع أنه لا مطابقة بيننا وبينهم في هذا أيضا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله، مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم مما قد نُسخ وبُدّل) المصدر السابق ١/٤٢١ (٨)
وشواهد قصد مخالفة المشركين في الحج كثيرة، أسوق جملة منها فيما يأتي:
١- كان إهلال المشركين إهلالًا شركيًا: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"؛ فخالفهم عليه الصلاة والسلام في ذلك ولبى بالتوحيد؛ فأعلن أنه لا شريك له –سبحانه- في إجابة هذه الدعوة –بل وسائر العبادات- كما لم يكن له شريك في الحمد والنعمة والملك.
٢- كان طائفة من المشركين –قريش ومن والاها، وكانوا يسمون: الحمس- يقفون بطرف الحرم من جهة نمرة، ومنه يفيضون إلى مزدلفة، وقالوا: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه. فخالفهم عليه الصلاة والسلام؛ فوقف بعرفة وأفاض منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فقد رأينا كل مكان أعرض المشركون عن النسك فيه أوجب الله النسك فيه) شرح العمدة – قسم الحج ٢/٦٣٢ (٩)
٣- كان المشركون يفيضون من عرفة قبل الغروب؛ فخالفهم عليه الصلاة والسلام فدفع بعد الغروب.
٤- كان المشركون يدفعون من مزدلفة بعد شروق الشمس؛ فخالفهم عليه الصلاة والسلام فدفع قبل الشروق. قال عمر رضي الله عنه: (إن المشركين كانوا لا يفيضون من جمع حتى تشرق الشمس على ثبير؛ فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم فأفاض قبل أن تطلع الشمس) أخرجه البخاري (٣٨٣٨). (١٠)
٥- كان المشركون يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض أخرجه البخاري (١٥٦٤)، ومسلم (١٢٤٠) عن ابن عباس رضي الله عنهما. (١١)، فخالفهم عليه الصلاة والسلام؛ حيث اعتمر وأمر بالعمرة فيها.
٦- أخرج البخاري في صحيحه (٣٨٣٤). (١٢)أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس فرآها لا تكلم، وأُخبر أنها حجت مصمتة؛ فقال لها: (تكلمي؛ فإن هذا لا يحل؛ هذا من عمل الجاهلية). قال الخطابي: (كان من نسك أهل الجاهلية الصمت) فتح الباري (٧/١٥٠). (١٣)
٧- كان من بدع أهل الجاهلية: أن من كان من الحلة –من ليسوا بحمس- لا يطوف أول ما يطوف إلا بثياب أحمسي، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف وطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ ثم لم يُنتفع بها؛ فجاء الإسلام فهدم ذلك كله انظر: فتح الباري ٣/٤٨٣ (١٤)، فنهى عليه الصلاة والسلام أن يطوف بالبيت عريان أخرجه البخاري (١٦٢٢)، ومسلم (١٣٤٧). (١٥)
٨- كان أهل الجاهلية –باستثناء قريش- إذا حجوا ثم رجعوا لم يدخلوا بيوتهم من قبل الأبواب، ولكن من ظهورها؛ فأنزل الله قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا أخرجه البخاري (١٨٠٣)،(٤٥١٢)، ومسلم (٣٠٢٦). (١٦)
هذه أمثلة وشواهد، وليس المقام مقام استقصاء.
إن من المؤسف حقا أن طائفة من الحجاج تخالف المشركين من وجه وتوافقهم من وجه آخر.
فتراهم يخالفون المشركين في تلبيتهم لفظا، ويوافقونهم واقعا وحالا؛ حيث يلهجون بالتلبية الخالصة لله، ومع ذلك يدعون غيره ويستغيثون بسواه، فلسان حالهم يقول: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك!
وتجدهم يخالفون المشركين في مواضع من المناسك وفي أزمانها، ولكنهم يوافقونهم من وجه آخر؛ فيتعبدون في أماكن لم تُشرع العبادة فيها، ويخصصون أزمانا للطاعة بغير دليل، بل ويحدثون عبادات لم ينزل الله بها سلطانا.
أو تراهم يتوقون مشابهة المشركين في المناسك؛ فإذا انقضت وافقوهم في أعمالهم وعاداتهم وهيئاتهم.
فما أحرى هؤلاء أن يتأملوا هدي النبي عليه الصلاة والسلام ويلتزموا سنته؛ فيكون لهم الفلاح في الدنيا والسعادة في الآخرة.
نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا وسائر المسلمين، وأن يرزقنا الفقه في دينه والثبات عليه، إن ربي قريب مجيب.