الأهداف الحقيقية لمنكري السنة النبوية

الأهداف الحقيقية لمنكري السنة النبوية

بقلم: د. نبيل بن أحمد بلهي

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فغير خافٍ أنّ خروج منكري السنة إلى العلن، أصبح سمةً ظاهرةً في هذا العصر، وقد بيَّن الصحابة والتابعون ومن بعدهم حقيقة هذا المسلك، وأهدافه وغاياته المصادمة للشريعة، لكن قد ينخدع بعض المعاصرين بهم بدعوى تعظيم القرآن والاقتصار عليه، ووجوب تحكيم شريعة القرآن، فيظنُّ أنَّ هؤلاء يريدون حقًّا العيش مع القرآن، وفي ظلِّ تشريعات القرآن.

فكان من اللازم تعرية هذا المسلك، وبيان الأهداف الحقيقية لمنكري السنة النبوية، وخطورة هذا الفكر على دين الإسلام وشريعة الإسلام -بل وحياة المسلمين-، وقد رأيتُ أن أتطرَّق لهذا الموضوع، بذكر الأهداف التي يعلنها منكرو السنة، ثم أفصِّل في الأهداف الحقيقية لهذا التوجُّه في التعامل مع السنة النبوية، نصحًا للأمة وبيانًا للحقائق بالأدلَّة العلمية.

وذلك أنَّ منكرِي السنَّة النبوية يسعَون للظهور بمظهر النَّاصح المشفق على الأمَّة الإسلامية، الذي يريد أن يُخرجها من ظلمات الوهم إلى نور العلم واليقين، ويتزيَّنُون بشعارات برَّاقة، على رأسها: التجديد، ومواكبة العصر، وخدمة الإنسان، وإعمال العقل، وترك التقليد -ونحوها من الشعارات- ويحاولون التخفِّي وراء النقد العلمي، وتنقية التراث الإسلامي مِمَّا علق به وليس منه، ومِمَّا شَوَّهَ صورة الإسلام التي يمثّلها القرآن الكريم وحده، -على حدِّ قولهم-.

يقول أحمد صبحي منصور: «ونحن وإن كنَّا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنَّة النبي وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإنَّنا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهي أنها تاريخٌ بشريُّ للنبيِّ وللمسلمين، وصدًى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن، ويعزُّ علينا أنْ تتناثر بين تلك الروايات سموم تشوِّه سيرة النبي العظيم، الذي نشر دعوةً، وأقام أمَّة، وأسَّس دولة، وأثَّر في تاريخ العالم، عليه الصلاة والسلام» القرآن وكفى مصدرا للتشريع الإسلامي، أحمد صبحي منصور: ص ١٠٧. (١).

ونقْد التراث الإسلامي وتنقيته أمرٌ مشروع في الأصل، وقد قام علماء الحديث بذلك حقَّ القيام، لكنَّ مطلب هؤلاء هو نقض وهدم التراث لا تنقيته وفق القواعد العلمية المتعارف عليها، وسأبيِّنُ في النقاط التالية أهدافهم الحقيقية.
 

١- إزاحة السنة النبوية التي تمثِّل حَجَر عثرة أمام المشروع التحديثيّ المزعوم.

وذلك أنَّ منكري السنة يتبنَّون مشروعًا تحديثيًّا لدين الإسلام يتجاوب مع معطَيات الحضارة الغربية، ويواكب - في نظرهم- التطوُّر الحضاري، والرقي الإنساني الذي وصل إلى الذروة. والإسلام التقليدي بالنسبة إليهم يناقض تمامًا مشروعهم التجديدي، والسنَّةُ النبوية التي تمثل الفهمَ السليم للقرآن، والتطبيقَ العملي لدين الإسلام تقف حَجَر عثرةٍ أمام إعادة فهم الإسلام فهمًا جديدًا، وتقضي على أحلام هؤلاء في استنساخ نسخة جديدة من الإسلام تنسجم مع النظرة الغربية للحياة، وقد صرَّح بذلك بعض كتَّابهم.

يقول محمد شحرور: «هكذا يظهر لماذا كانت الحاجة الملحَّة إلى علم الحديث، حيث تَمَّ ظهور علم الحديث في خضمّ هذه المعركة، حتى أصبحت السنَّة بمفهومها وتعريفها التقليدي الفقهي هي: السَّيف المسلَّط على رأسِ كلِّ فكرٍ حرٍّ نَيِّرٍ ونقديٍّ، وأصبح الظنُّ عند المسلمين أنَّ محمدًا ﷺ حلَّ كلَّ مشاكل النَّاس، مِن وفاتِه إلى أن تقوم الساعة» الكتاب والقرآن، محمد شحرور: ص ٥٦٩. (٢).

لكن وبالرغم من تبجُّح أصحاب هذا الفكر بمبادئ النقد، والتمحيص، ونبذ التقليد، والمضيّ للأمام تحديثا وتجديدًا، إلا أنّ المتأمِّل في صنيعهم يرى تقليدًا من نوع آخر، وارتماءً في أحضان الأفكار الغربية المستوردة، وبالأحرى هو استنساخ مشوَّه لأفكار فلسفية في غير بيئتها، لم تقدِّمْ جديدًا نافعًا.

يقول المستشرق جوناثان براون: «إنَّ منهج (القرآن وحده) ليس حلًّا لسجن التقليد، إنَّه ليس اعتمادًا انتقائيًا عليه [أي التقليد]، لم يحقِّق أيٌّ من هؤلاء المفكرين قطيعةً منهجيةً مع الماضي، أو إعادةَ قراءةٍ للقرآن بعيدةً عنه... وبشكل عامٍّ فإنَّ اتجاه (القرآن وحده) هو تعبير عن الرغبة في إسلام متوافق مع العقلانية الحديثة والمشاعر الغربية، إنَّه نتاجُ: كيف تريد شريحة معينة من المجتمع أن يكون الدِّين؟»  النزاع على السنة، جوناثان براون: ص ٣٢٣. (٣).

 وإنَّه من العجيب ادِّعاء هؤلاء أنَّ السنَّة النبوية حجرُ عثرة أمام التقدُّم وصناعة الحضارة، وأجدادنا ملكوا الدنيا وبسطوا نفوذهم شرقًا وغربًا، وهم متمسِّكون بالكتاب والسنة اعتقادًا وعملا! فالتاريخ يشهد أن الحضارة الإسلامية بلغَتْ أوجها حين كانت الخلافة الإسلامية تتّخذ القرآن والسنة مرجعًا لها.

يقول المستشرق ليوبولد فايس (محمد أسد): «لقد كانت السنة مفتاحاً لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً، فلماذا لا تكون مفتاحاً لفهم انحلالنا الحاضر؟ إنَّ العمل بسنة رسول الله e هو عمل على حفظ كيان الإسلام وعلى تقدمه، وإنَّ ترْك السنَّة هو انحلال الإسلام، لقد كانت السنَّة الهيكلَ الحديديّ الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنَّك إذا أزلت هيكل بناء ما، أفيُدهشك بعدُ أن يتقوّض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟» الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد: ص ٨٧. (٤).
 

۲- الانفراد بالقرآن الكريم وتأويله بما يتوافق مع أهواء البشر.

هذا الهدف يعدُّ هدفًا استراتيجيًّا في نظر هذه الطوائف المعاصرة، فمن المعلوم المكانة التي تبوّأَها القرآن الكريم في حياة المسلمين، فهو الوحي المقدَّس الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والقرآن كلُّه خير وبركة، وهو الذي يهدي إلى التي أحسن في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي ‌لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَبِيرٗا [الإسراء: ٩]، بناءً على هذا لا يمكن تبديل هذا القرآن وإزاحته من قلوب المسلمين في مواجهةٍ مباشرة، والبديل عن ذلك القضاء على السنَّة المبيِّنة لمفهومه الحقيقي، ثم التفرُّغ لتأويله تأويلا يتلاءم مع أهواء البشر، بعيدًا عن القواعد التي وضعها المفسِّرون لفهم كلام الله، وبعيدًا عن الأحاديث النبوية والآثار السلفية التي توجِّه معاني الآيات توجيهًا صحيحا.

يوكِّد على هذا محمد شحرور فيقول: «وكلٌّ سيقرأ التنزيل ضمن هذه المستويات والمشاكل والإشكاليات التي تخصُّه، فيجد فيه أشياء لم يجدها غيره، ويفهم منها أشياء لم يفهمها غيره» نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، محمد شحرور: ص ٥٥. (٥).

فالانفراد بتأويل القرآن وفق نظريات حديثة ومناهج غربية، لإفراغه من محتواه وتأويله تأويلا جديدًا يتوافق مع الأفكار الجديدة =هو مبتغى القوم، حيث تكون تلك الأفكار الغربية هي الأصل، مثل فكرة (الإنسان مركز الكون- الحرية أصل ومقصد عام)، والآيات القرآنية تبع لها، ثم يتكلَّفون ربط الآيات القرآنية بتلك الأصول المزعومة.

وهذا نموذج عن (أصل الحرية) عند محمد شحرور الذي يقول فيه: «فالحرية هي عين العبادة لله وحده، والقتال من أجل حريات النَّاس في اختياراتهم وآرائهم، هو القتال في سبيل الله، وفي سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا... وذلك واضح في قوله تعالى: وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ‌صِدۡقٗا ‌وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ [الأنعام: ١١٥]» الإسلام والإيمان، محمد شحرور: ص ١٥٩. (٦).

وقد تفطَّن المفكّرون المنصفون لغرض القوم، ورغبتهم في الاستفراد بكتاب الله، والعبث في تأويله، يقول المستشرق ليوبولد فايس (محمد أسد): «فإنَّهم يحاولون أن يزيلوا ضرورة اتِّباع السنة؛ لأنَّهم إذا فعلوا ذلك كان بإمكانهم حينئذٍ أن يتأوَّلوا تعاليم القرآن الكريم كما يشاؤون على أوجه من التفكير السطحي -أي: حسب ميول كلِّ واحد منهم وحسب طريقة تفكيره هو- ولكنَّ المنزلة الممتازة للإسلام – على أنَّه نظام خلقي وعملي ونظام شخصي واجتماعي- تنتهي بهذه الطريقة إلى التهافت والاندثار» الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد: ص ٩٧. (٧).

فإنكار السنة النبوية هو بوَّابة هؤلاء لتطويع القرآن الكريم ولَيِّ أعناق نصوصه، عسى أن تحظى بشيءٍ من القَبول عند الرجل الغربي المتعالِي بحضارته الغربية عن حضارة الشرق بدينها وتراثها، وهذه دَنِيَّةٌ في الدِّين ما بعدها دنيّة.

وقد بيَّن (محمد أسد) سبب ذلك وهو أن السنة النبوية تُعارِض الأفكار الغربية معارضة تامَّة، إذ يقول: «إنَّ السنة تُعارِض الآراء الأساسية التي تقوم عليها المدنية الغربية معارضة صريحة، حتى إنَّ أولئك الذين غلبتهم الثانية يقصد بالثانية: المدنية الغربية. (٨) لا يجدون مخرجًا من مأزقهم هذا إلا برفض السنَّة على أنها غير واجبة الاتِّباع على المسلمين؛ ذلك لأنَّها قائمة على أحاديث لا يوثَقُ بها، وبعد هذه المحاكمة الوجيزة يصبح تحريف تعاليم القرآن الكريم لكي تظهر موافقته لروح المدنية الغربية =أكثر سهولة» الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد: ص ٩٨. (٩).
 

۳- استبدال القيم الغربية بالقيم الإسلامية، والانصهار في الحضارة الغربية.

فهذا كذلك ما تسعى إليه التيارات الفكرية التي تنكر حجية السنة النبوية، فهم في الغالب منبهرون بالشعارات والقيم التي جاءت بها الحضارة الغربية، مثل: (الحرية، الإنسانية، الديمقراطية، المساواة)، ويرون أن السنة النبوية لا تستجيب لمثل هذه القيم ولا تركّز عليها، بل كانت حجر عثرة أمام تطبيقها والعمل بها، فكان من الواجب عندهم تخطِّي القيم الحقيقية للإسلام التي قرّرها القرآن والسنة، والذهاب نحو تأصيل القيم الغربية انطلاقا من بعض الآيات التي حرَّفُوا المراد منها.

فبالنسبة إلى هؤلاء: الإنسان هو مركز الكون، وأوجب الواجبات هو: البناء الحضاري، وتشيِيد المدنيات، وتسخير جميع ما في الكون لخدمة الإنسان، بينما القيم الإسلامية واضحة في أنَّ الإنسان خُلِق لعبادة الله، وأن أهمَّ شيءٍ بالنسبة للمسلم هو النجاة في الآخرة، ولو بالتضحية بالدنيا وزخارفها، وأن عمارة الدنيا إنما هي وسيلة للوصول إلى الآخرة.

وهذا نموذج واحد عن تبنِّي مبدأ الإنسانية بالمفهوم الغربي وهي: خدمة رغبات الإنسان مطلقًا، ومحاولة تأصيل ذلك من القرآن الكريم.

يقول سامر إسلامبولي: «ومن هذا المنطلق الإيماني عُدَّ القرآن المصدر الشرعي الإلهي الوحيد الذي ليس فيه محاباة ولا مداهنة لأيّ مجتمع آخر، وإنما هو شرع إنسانيّ عالمي، فلذا يكون الحرام ما حرّمه الله في كتابه، والحلال ما أحله الله في كتابه» تحرير العقل من النقل وقراءة نقدية لمجموعة من أحاديث البخاري ومسلم، سامر إسلامبولي: ص٣٧. (١٠).

بينما القيم الإسلامية التي جاء بها القرآن والسنة النبوية، هي قيم ثابتة لا تتغيَّر بتغير الزمان، مستمدَّة من الوحي، تنطلق من كون الإنسان عبدًا لله، وتحقِّقُ الغاية من وجوده وهي توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وتقديم أمر الآخرة على أمر الدنيا. والسنَّةُ النبوية هي التطبيق العملي لمفهوم هذه القيم، والتجسيد الفعليّ لها، فحتى يتمَّ لهم مشروع استبدال تلك القيم ينبغي أولًا إزاحة السنة النبوية، والتبرؤ من تطبيقات الأجيال الإسلامية الأولى، ثم اقتراح البديل الغربيّ على أساس أنَّه ضرورة لا محيص عنها مسايرة للمستجدَّات.
 

 ٤- زعزعة الثقة في النصوص الدينية، وإعطاء الأهمية القصوى لما تستحسنه العقول.

وذلك أن منطلق منكري السنة هو العقلانية المتفلِّتَة، فلشدَّة غلوِّهم في التمسُّك بما تستحسنه العقول، والأخذ بما تهواه النفوس، وتستلذُّه الأذواق، تجدهم ينظرون إلى نصوص الأحاديث النبوية نظرة ازدراءٍ واحتقار، ولا يقيمون اعتبارًا لجهود المحدّثين في الحفاظ على السنة النبوية وتنقيتها، بل بالعكس يرون التراث الحديثيّ هو سبب تخلف الأمَّة عن ركب الحضارة.

يقول سامر إسلامبولي: «العقل موجود في الواقع قبل النقل، فقد كان العقل قبل أن يولد النقل، فالنقل نتاج لتفاعل العقل مع الواقع، مما يؤكِّد هيمنة العقل وسيادته على النقل، ولا يمكن أن يتعاكس الوضع فيصبح النتاج سيدا للمنتِج؛ لأنَّ ذلك لو حصل في الواقع لأصبح الأمر مهزلة» المرجع السابق: ص٧. (١١).

وفي المقابل يعتقدون أنّ ما يستحسنونه من أفكار هو اليقينيّ الذي ينبغي السعي فيه، ثم يستدلُّون على ذلك بالآيات القرآنية الداعية إلى التفكُّر والتعقُّل، من مثل قوله تعالى: لَقَدۡ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ كِتَٰبٗا فِيهِ ذِكۡرُكُمۡۚ ‌أَفَلَا ‌تَعۡقِلُونَ [الأنبياء: ١٠].

والحقيقة أنَّ ما سمَّاه هؤلاء معقولات واجب تقديسها والمصير إليها، سمَّاها القرآن أهواءً وحذَّر منها وبيَّن عاقبة أمرها، فمَن ترَك السنة النبوية واستبدل بها ما أوصله إليه عقله، فقد اتخذ كتاب الله وسنة رسوله وراءه ظِهْرِيّا، قال الله تعالى:فَإِن لم ‌يَستَجِيبواْ لَكَ فَٱعلمۡ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهوَآءَهمۡ وَمنۡ أَضَلُّ ممَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيرِ هدٗى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلقَومَ ٱلظَّٰلمِينَ   [القصص: ٥٠].

يقول ابن قَيِّم الجوزية: «وكلُّ هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرَّسول هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية، وإنْ سمَّاها أربابها بالقواطع العقليّة والبراهين اليقينيّة، كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهةً، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصدَّ القلوب عن الإيمان إصلاحًا وإحسانًا وتوفيقًا» الصواعق المرسلة، ابن القيم: ٢/ ٦٧٤. (١٢).

فالآية أثبتتْ أنه ليس بعد الاستجابة لأوامر الرسول ﷺ إلا اتباع الهوى المذموم، وهؤلاء يريدون أن يكون الصواب تابعا لأهوائهم التي يسمونها معقولات، ولكن هيهات، والله تعالى يقول: وَلَوِ ٱتَّبَعَ ‌ٱلۡحَقُّ ‌أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ بَلۡ أَتَيۡنَٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ [المؤمنون: ٧١]. 
 

٥- إعادة إنتاج اسلام جديد يتوافق مع متطلبات العصر، ويستجيب لضغط الواقع. 

مَن تأمَّل في كتابات منكري السنة، والأفكار التي يسوِّقونها في كتبهم، وما يظهر على فلتات ألسنتهم، يدرك أنَّ مرمى القوم هو استبدال الدين الذي يسمُّونَه تقليديًّا بدين جديد، يستجيب لمتطلَّبات الواقع، ويتوافق مع روح العصر، ويتَّصِف بصفة الصيرورة بحسب متطلبات الوقت وحاجات الناس، وهو في الحقيقة عين التبديل الذي طلبه الكفار من النبي ﷺ، فردَّ عليهم أنَّ هذا من قِبَل الله وليس للنبي ﷺ ولا لغيره أن يبدِّله أو يغيِّره من تلقاء نفسه،  قال الله تعالى:  وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَاتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَرۡجُونَ لِقَآءَنَا ٱئۡتِ بِقُرۡءَانٍ غَيۡرِ هَٰذَآ أَوۡ ‌بَدِّلۡهُۚ قُلۡ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ ‌أُبَدِّلَهُۥ مِن تِلۡقَآيِٕ نَفۡسِيٓۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۖ إِنِّيٓ أَخَافُ إِنۡ عَصَيۡتُ رَبِّي عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ [يونس: ١٥].

قال ابن جرير الطبري: «والتبديل ‌الذي ‌سألوه فيما ذُكِر، أن يحوِّل آية الوعيد آية وعد، وآية الوعد وعيدًا، والحرام حلالًا والحلال حراما، فأمر الله نبيَّه ﷺ أن يخبرهم أنّ ذلك ليس إليه، وأنَّ ذلك إلى مَن لا يُرَدُّ حكمه ولا يُتَعَقَّبُ قضاؤه، وإنما هو رسول مبلِّغ ومأمور مُتَّبِع» جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الطبري: ١٢/ ١٣٦. (١٣).

وبما أن السنَّة النبوية تمثّل التطبيق العملي للقرآن، فهؤلاء يريدون الحيلولة بين القرآن الكريم وفهمه السليم وتنزيله الحكيم على الواقع، ليستبدلوه بتطبيقات وتفسيرات جديدة وفق متطلبات عصرنا، وبالأحرى دين جديد متجدد لا يشبه الدين الذي جاء به محمد ﷺ.

يقول أنور الجندي- وهو يتحدث عن الكتب التي تروّج لشبهات منكري السنة-: «ولا ريب أنَّ دعوتها إلى إثارة الشبهات حول الحديث النبوي، والدعوة إلى الاكتفاء بالنَّص القرآني عمل خطير، هو محاولة للفصل بين النصِّ والتطبيق، والتطبيق في الإسلام هو أخطر الجوانب، وأهمها: هذا التطبيق المتمثل في (الأسلوب الذي اتَّبعه الرسول ﷺ في تنفيذ النصّ القرآني)، ومن هنا فإنَّ النصَّ القرآني وحده لا يكفي المسلمين اليوم، ولا يحقق لهم إسلامًا حقيقيًا» السنة في مواجهة الاستشراق، أنور الجندي: ص ٨- ٩. (١٤).

وقد بدا واضحا من أوَّل يوم ظهرت فيه نزعة إنكار السنة النبوية، أنَّ مبدأهم هو الانهزام أمام الحضارة الغربية، ومحاولة تطويع دين الله لأهواء البشر، قد بيَّن ذلك الذين جمعوا بين معرفة الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، منهم المستشرق ليوبولد فايس (محمد أسد)، إذ يقول مفسِّرا الظاهرة: «إنّ رفضَ الأحاديث الصحيحة جملة واحدة أو أقساما ليس حتى اليوم -كما سبق لنا القول- إلا قضية ذوق، قضية قصرت عن أن تجعل من نفسها بحثا علميا خالصا من الأهواء... إنّ السبب يرجع إلى استحالة الجمع بين طريقة حياتنا وتفكيرنا الحاضرة المتقهقرة وبين روح الإسلام الصحيح، كما يظهر في سنَّة النبي ﷺ، في نظام واحد» الإسلام على مفترق الطرق، محمد أسد: ص ٩٧. (١٥).

في الختام، نستطيع أن نلخِّص القول، ونبيِّن المقصود من هذا كلِّه، بالقول: إنَّ المعركة الحضارية اليوم هي معركة مصطلحات وأفكار مبَهرجة تسوَّق للناس، ومن بين تلك الأفكار المسمومة التي يحاول أصحابها كسوتها بثوب قرآني، فكرةُ رفض السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن، وهي دعوة أخرى من الدعوات للانحلال من الشريعة الإسلامية، ووجه آخر من أوجه الحرب الناعمة على مصادر الدين باسم الانتصار للقرآن، وشريعة القرآن، ومما يؤكِّد ذلك أن هذه الدعوات والأفكار تنطلق من وراء البحار، وتُدعم بأموال الدوائر الاستشراقية الاستعمارية، ثم يُخْتار لتسويقها من ينطق بألسنتنا، لترويجها على أساس أنها فكرة تجديدية داخل المنظومة الإسلامية، فلتحذر الأجيال من هذه الأساليب الجديدة في مواجهة الإسلام وإفراغه من محتواه، وليتفطَّن هذا الجيل لطبيعة الصراع بين الحق والباطل في هذه المرحلة، فإنَّ معرفة منابت الأفكار وأهدافها الحقيقية يشكل صخرة الوعي التي تنكسر عليها جميع الأفكار المشبوهة التي يراد لها الانتشار.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

شارك المحتوى: