صنع الله الذي أتقن كلّ شيء

صنع الله الذي أتقن كلّ شيء

(التصميم الدقيق في الكون ودلالته على وجود الله)

بقلم: إبراهيم بن محمد صدّيق

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي خلقَ كلَّ شيء فقدَّرهُ تقديرًا، والصَّلاة والسَّلام على من بعثه الله بشيرًا ونذيرًا، صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا، وبعد:

خلقَ اللهُ الإنسان، وأكرَمَهُ بالعقلِ الذي يميِّز بهِ بينَ الحقِّ والباطل، والخيرِ والشَّر، وأنعمَ عليه بصنوفٍ من النِّعم لا تُحصى؛ ومع ذلك فإنَّ من النَّاس من ينكرُ وجودَ خالقِه، ويتنكَّر لفطرته الدَّاعية إلى الإيمان به سبحانه وتعالى، فيقع في وَحْلِ الإلحاد والإنكار لوجود الله، وهو الموقفُ الذي يصادم الأدلَّة الكثيرة الدَّالة على وجودهِ سبحانه، ومن أعظم تلك الأدلَّة اليقينيَّة القطعيَّة:

دليل الإحكام والإتقان.

وفي هذا المقال عرضٌّ وبسطٌ لهذا الدليل؛ ليكون حجَّة للمُنكِر يعرف بها قدر هذا الخالق وعظمته وحكمته، وزيادة إيمانٍ ويقينٍ للمؤمن، فإنَّ الإنسان كلما ازداد معرفةً بالله ويقينًا به ورأى تنوع الأدلَّة الدَّالة عليه ازداد حبًّا له وتقربًا منه.

صورة الدليل:

يقومُ هذا الدَّليل على الاستدلال بما نراهُ ونلمسُه ونشاهدُ آثارَه في الكون من الإتقان والإحكام على ضرورة وجود الله سبحانه وتعالى، وهو يستندُ إلى مقدمتين أساسيتين قطعيَّتين، هما:

المقدمة الأولى: وجودُ الإتقانِ والإحكامِ في الوجود.

المقدمة الثانية: ضرورة وجود فاعلٍ لهذا الإحكام والإتقان.

أمَّا المقدمة الأولى، وهي وجود الإتقان والإحكام في الكون؛ فدليله: المشاهدة، فالكون الذي يشاهده الإنسان ويعيش في جزءٍ منه قد رُكِّب بصورةٍ معقَّدة، ومظاهر الإتقان فيه متعدِّدة وكثيرة جدًّا، وقد وقف أمام هذه الحقيقة علماءُ الفلك والأحياء والبيولوجيا وغيرهم وعبَّروا عن حقيقته، وسردوا مظاهرَه، ودبَّجوا القصائد في بيانه والإشارة إليه.

وقد كشفَ العلماء عن أنواعٍ متعددَّة من أشكال الدقَّة والإحكام والإتقان في الكون في مجالات متعدِّدة؛ كالفلك والفيزياء وما يتعلق بالكون وغير ذلك من المجالات، فتحدَّث أصحابُ كلِّ اختصاصٍ عمَّا اكتشفوه من تصميمٍ باهر، ومَشاهدُ الجلال والجمال تملأ الكون وما خفيَ علينا أكثر وأوسع؛ بل مظاهر هذا الدليل تنكشفُ يومًا بعد يومٍ مع تطوُّر المعارف المتعلقة بالفضاء وتاريخ الكون والأحياء، ولا يمكن في مقالٍ مختصر أن يستوعب مظاهر الدقَّة والإتقان في هذا الكون؛ فكلُّ جزءٍ منه شاهدٌ على ذلك، ومع ذلك فإنَّ من أبرز ما يدلُّ على الإتقان في هذا الكون ودقَّتِه: وجود هذه الحياة على الأرض، فقد هيَّأ الله هذه الأرض وضبَط قوانينها بصورةٍ يجعل منها كوكبًا صالحًا لاحتضان هذه الحياة، فكلُّ القوانين التي تسيِّر الأرض -بإذن الله- قوانين بالغة في الدقة، وقد أودع الله في الأرض ما به تكون ملائمة للحياة، وهو أمرٌ لا يمكن غضُّ الطَّرف عنه ولو من الملاحدة أنفسهم: يقول عالم الطبيعة البيولوجية فرانك ألن (frank &#٣٩;alaan): «إنَّ ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورًا عديدة لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية، فالأرض كرة متعلقة في الفضاء تدور حول نفسِها فيكون في ذلك تتابع الليل والنَّهار، وهي تسبح حول الشمس مرَّة في كل عام فيكون في ذلك تتابع الفصول الذي يؤدِّي بدوره إلى زيادة مساحة الجزء الصَّالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر ممَّا لو كانت الأرض ساكنة، ويحيط بالأرض غلافٌ غازي يشمل على الغازات اللازمة للحياة ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير يزيد على ٥٠٠ ميل، ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تَحُولُ دون وصول ملايين الشُّهب القاتلة إلينا منقضَّة بسرعة ثلاثين ميلًا في الثانية، والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة»الله يتجلى في عصر العلم، لنخبة من العلماء الأمريكيين، أشرف على تحريره: جون كلوفرمونسيما، ترجمة الدكتور: الدمرداش عبد المجيد سرحان. (ص: ١٢-١٣). (١)، ثم طفق يتحدث عن ملاءمة هذه الأرض للحياة ويذكر لها شواهد كثيرة.

ومن شواهدها: أنَّ القوانين التي ضُبطت بها الأرض لو اختلَّت بشكل بسيط لكان هذا الكوكب غير الكوكب الذي نعرفه، ولكان قيام الحياة فيه أمرًا مستحيلًا، ولا يتعلق الأمر بالقوانين التي تحكم الأرض فقط بل حتى القوانين التي تحكم كل ما يحيط بها بحيث يهيئها لوجود الحياة فيها، فالشَّمس التي تستمدُّ الأرض منها الدِّفء لو أنَّها أعطت نصف إشعاعها الحالي لكانت الأرض قد تجمَّدت، ولو زادت عن إشعاعها الحالي لأصبحت الأرضُ جافَّةً قاحلةً لا حياة فيها، بل حتى زاوية ميلان الأرض والتي تقدر بـ ٢٣ درجة موضوعة بدقَّةٍ بالغةٍ، ولو لم تكن الأرض مائلة لكان القطبان في غسق دائم ينظر: العلم يدعو للإيمان (ص: ٥١)، والله يتجلى في عصر العلم (ص: ١٤ – ١٥)، والتصميم العظيم لاستيفن هوكينغ، فلم يجد بدا من الاعتراف بهذه الحقائق والانبهار بدقة الكون رغم إلحاده. (٢)، فكل شيء هنا في موضعه المناسب، وكل شيءٍ في الأرض موضوعٌ بدقَّة لتكون عليها حياة، وكل الشواهد الفيزيائية والفلكية تؤكد ذلك، وهو ما جعل واحدًا من أشهر الملاحدة يعلن إيمانه بوجود الله بعد أن قضى قرابة الخمسين عامًا ينكر وجوده ويدافع عن الإلحاد في كل محفل، وهو أنتوني فلو (Antony Flew)، وقد صوَّر حجَّة الإحكام والإتقان في كتابه "هناك إله" وذكر عددًا من الصور التي جعلته يوقن بوجود الله، وأنَّ هذا الكون وهذه الأرض الملائمة للحياة بهذه الدقة لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة والعشوائية.

وخلاصة هذا: أنَّك أيها الإنسان مهما أمررت بصرك في نفسك أو في أرضك وسمائك ستجد العناية التَّامة، والضبط الدقيق، والإتقان الباهر، ستجد عظَمَةً تتجلَّى في كل مظاهر هذه الحياة، ستجد أن الكون كله مهيأ لك ولوجودك، وستجد الإتقان والإحكام في كلِّ جزءٍ منه، ومظاهر هذا الإتقان كثيرة أشرتُ إلى طرفٍ منها.

وأما المقدمة الثانية، فهي: ضرورة وجود فاعلٍ لهذا الإتقان والإحكام.

وهذه المقدمة قائمةٌ على المبادئ العقلية الضروريَّة التي تقول: إنَّ الفعل لا بدَّ له من فاعل، وبناءً عليه فإنَّ هذا الإتقان الموجود في الكون لا بدَّ لهُ من فاعلٍ وهو الله سبحانه وتعالى، فهو دليلٌ قطعيٌّ يقيني، قريبٌ من النَّفس البشرية، ومستندٌ على المبادئ العقلية الضروريَّة، ويشاهده كلُّ إنسانٍ في أيِّ زمان ومكان، وقد اهتمَّ به علماء الإسلام قديمًا وحديثًا وبنوا عليه استدلالهم على وجود الله، فقد استند إليه الخطابي فيما نقله عنه ابن تيميةبيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (١/ ٥٠٦). (٣)، كما احتجَّ به أبو حنيفة والشافعي رحمهم اللهينظر: تفسير ابن كثير (١/ ١٩٧). (٤)، وقد كان الاستدلال بمثل هذا الإتقان والإحكام مطروقًا موجودًا عند العرب بفطرتهم، فقد كان الواحد منهم يقول: إنَّ البعرة لتدلُّ على البعير، وإنَّ أثر الأقدام لتدلُّ على المسير، فسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج؛ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟المرجع السابق. (٥).

فوجود الإتقان في الكون يدلُّ ضرورةً على وجود الله، يقول ميريت ستانلي (Merritt Stanley) –عالم طبيعي- في بيان دلالة الإتقان على وجود الله بعدما ذكر عددًا من مظاهر القوانين الضابطة للحياة والمهيئة لها: «إنَّ جميع ما في الكون يشهدُ على وجود الله سبحانه وتعالى، ويدلُّ على قدرته وعظمته، وعندما نقوم نحن العلماء بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها حتَّى باستخدام الطريقة الاستدلالية فإنَّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي الله وعظمته، ذلك هو الله الذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادية وحدها، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كل ذرَّة من ذرات هذا الوجود، وليست العلوم إلا دراسة خلق الله وآثار قدرته»الله يتجلى في عصر العلم (ص: ٢٦). (٦).

ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن يكون منشئ هذا الإتقان والإحكام هو المادَّة أو الطبيعة، فالمادة والطبيعة موجودتان مخلوقتان فنسبة الخلق إليهما نسبة إلى مخلوق يحتاج إلى خالق، وهو جوابٌ ناقص عن سؤال الخلق، فإن قلنا إنَّ خالق الإتقان والإحكام في الكون هو المادة فإننا لا زلنا بحاجة إلى الجواب عن خالق المادة نفسها.

كما أنَّ الإتقان والإبداع الموجود في الكون ليس مجرد فعل تقتضي الضرورة العقليَّة وجود فاعل له؛ بل يدلُّ هذا الدليل على أكثر من ذلك من وجود خالقٍ عليمٍ حكيمٍ ذي قدرة، فإنَّ الإتقان الموجود في الكون ليس مجرد إتقان في قضايا منفصلة، بل هو إتقانٌ حتى في الترابط بين القوانين والأسباب ومسبباتها، وهذا الترابط بين الأشياء بعد خلقها وما فيها من إتقان دليلٌ على أنَّ خالق هذه الأشياء عليم حكيم ذو قدرة واسعة، ولا يمكن أن ينشأ هذا الكون وتنشأ الحياة في الأرض من مجرد الصدفة أو خبط عشواء للطبيعة كما يرى دارون، بل هو عملٌ منظَّمٌ دقيقٌ، وخلقٌ إبداعيٌّ لا مثيل له.

والذي أريد أن أصل إليه: أنَّ هذا الكون كله بهذا الإبداع والإتقان لا يمكن أن يكون إلا من لدن حكيمٍ عليمٍ خبيرٍ قادر، لا مجال للصدفة أو لانتخاب الطبيعة، ومن نظر في نفسه فقط رأى عظمة الله تتجلَّى في خلقه لهذا الإنسان على هذه الهيئة وما أودع فيه من أجهزة خارجية ظاهرة وداخلية باطنة، فكيف بمن تمعَّن في الأرض وما فيها من مظاهر الإتقان، فكيف بمن سبحَ فكرُه في هذا الكون الفسيح؟

 

آيات الله كاشفة عن دليل الإتقان:

هذا الدَّليل العظيم على وجود الله سبحانه وتعالى وعلى كماله وقدرته وحكمته قد دلَّ عليه القرآن الكريم بصورٍ متعددة، فقد بين الله سبحانه إتقان الخلق وإبداعه فيه فقال وهو يعدِّد ما خلقه وأحسن صورته: ٱلَّذِي خَلَقَ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖ ‌طِبَاقٗاۖ مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ فَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖ ٣ ثُمَّ ٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ كَرَّتَيۡنِ يَنقَلِبۡ إِلَيۡكَ ٱلۡبَصَرُ خَاسِئٗا وَهُوَ حَسِيرٞ ٤ وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ [الملك: ٣-٥]، وهذه من أعظم الآيات الدالة على دليل الإتقان والإحكام، فالله سبحانه وتعالى يذكر مخلوقًا عظيمًا من مخلوقاته وهو السماء، ويبين أنه خلق سبع سماوات في غاية الدقة والإتقان لا ينظر فيها الجاحد والمنكر باحثًا عن سوء أو مثلبة إلا ويرتد إليه بصره خائبًا، يقول ابن كثير: «وقوله: مَّا تَرَىٰ فِي خَلۡقِ ٱلرَّحۡمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٖۖ أي: بل هو مصطحب مستو، ليس فيه اختلافٌ ولا تنافرٌ ولا مخالفة، ولا نقص ولا عيب ولا خلل؛ ولهذا قال: ﵟفَٱرۡجِعِ ٱلۡبَصَرَ هَلۡ تَرَىٰ مِن فُطُورٖﵞ أي: انظر إلى السماء فتأمَّلها، هل ترى فيها عيبًا أو نقصًا أو خللًا؛ أو فطورا؟»تفسير ابن كثير (٨/ ١٧٧). (٧)، وإن شاء هذا الجاحد أعاد البصر كرَّتين، وفي كل مرةٍ ينقلب إليه البصر خاسئًا وهو حسير، فليس في خلق الله اختلافٌ يعيبه ويشينه، بل هي متفقة من جهة الدقة والإتقان والإحكام، فالإتقان في النملة كالإتقان في المجرة، والإتقان في الذرة كالإتقان في النجوم السابحة.

ومن صور استدلال القرآن بدليل الإتقان: أنَّ الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بالتأمُّل والنَّظر والتَّفكر في مخلوقات الله، ذلك النَّظر المؤدي إلى الإيمان بالله والاعتراف بوجوده واستحقاقه وحده للعبادة، وينبِّه القرآن دائمًا إلى المعاني القريبة التي يشاهدها الإنسان فإنَّها كافية لمن كان له قلبٌ بأن يعتبر بها ويعرف قدرة الله وإبداعه وإتقانه، يقول الله تعالى داعيًا الإنسان إلى أن يتأمل فيما بين يديه: فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ إِلَىٰ طَعَامِهِۦٓ ٢٤ أَنَّا ‌صَبَبۡنَا ٱلۡمَآءَ صَبّٗا ٢٥ ثُمَّ شَقَقۡنَا ٱلۡأَرۡضَ شَقّٗا ٢٦ فَأَنۢبَتۡنَا فِيهَا حَبّٗا ٢٧ وَعِنَبٗا وَقَضۡبٗا ٢٨ وَزَيۡتُونٗا وَنَخۡلٗا ٢٩ وَحَدَآئِقَ غُلۡبٗا ٣٠ وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا ٣١ مَّتَٰعٗا لَّكُمۡ وَلِأَنۡعَٰمِكُمۡ [عبس: ٢٤-٣٢]. ويقول تعالى داعيًا الإنسان أن ينظر لما حوله من أرضٍ مبسوطة، وسماءٍ ممتدة، وجبالٍ منصوبة، وأنعام فيها عجائب قدرة الله: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ‌ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ ١٧ وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ ١٨ وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ ١٩ وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ [الغاشية: ١٧-٢٠]، كلها دلائل واضحة بينة على خلق الله لهذا الكون وإتقانه له.

 

الله وحده المستحقُّ للعبادة:

من تأمَّل في الآيات السابقة يجد في كل شيءٍ ممَّا ذكره الله ما لا يحصى من مظاهر الإتقان وحسن الصنعة والخلق، فقد دعاه الله إلى التأمُّل فيها وَتَرَكَ له التبحر في معانيها ومضامينها ودلالاتها وما تحتوي هذه المخلوقات من تفاصيل دقيقة بالغة في الدقة والتعقيد، ومن تأملها متخليًا عن هواه أدَّاه ذلك إلى ثلاثة أمور:

١/ الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، فهذا الضبط والإتقان في الكون لا بدَّ له من فاعل وهو الله.

٢/ الإيمان بعددٍ من صفات الله، فهذا الخلق والإبداع والإتقان يُوجب أن يكون فاعله متصفًا بالعلم، والحكمة، والإرادة، والقدرة، والرحمة، وغير ذلك من الصِّفات.

٣/ الإقرار بأنَّ الله هو المستحقُّ للعبادة؛ وهذه القضية أهم قضيَّة تنبني على الاعتراف بخلق الله وإتقانه وضبطه لهذا الكون، فإذا كان الله بهذه العظمة التي تتجلَّى بعض آثارها في خلقه وإتقانه وضبطه لهذا الكون فإنَّه سيكون هو المستحقُّ للعبادة وحده، ولا يصحُّ عقلًا أن يشرك الإنسان معه غيره في الشُّكر والعبادة والتوجُّه والتذلُّل؛ لأن كل ما سواه لا يصنعُ ذرةً من خلقه، بل كلهم مربوبون مخلوقون له خاضعون لقدرته وعظمته، فينبغي الانقياد له، والتسليم لأمره، وإخلاص العبادة له.

وكثيرٌ من آيات القرآن التي تتحدث عن قدرة الله وعظمته وخلقه لهذا الكون يربطها الله بألوهيته واستحقاقه للعبادة، فإذا اعترف الإنسان بوجود الله وكونه خالقًا حكيمًا عليمًا قادرًا مدبرًا متصرفًا في الكون لزمه أن يقر به معبودًا لا يستحق العبادة سواه، ولا يُفردُ بالطَّاعة المطلقة غيره، وأمَّا إثبات الملزوم وهو ربوبية الله ونفي اللازم وهو ألوهيته فمناقض للعقل السليم، يقول تعالى: وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ ‌أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ ‌أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: ٣٨]، ويقول تعالى محتجًّا بربوبيته على استحقاقه وحده للعبادة: يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي ‌خَلَقَكُمۡ ‌وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ [البقرة: ٢١].

وأخيرًا:

يقول الله تعالى: سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ يَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ [فصلت: ٥٣].

في نفسك أيها الإنسان تأمَّل آيات الله، ودقَّة خلقه، وبديع صنعه، في نفسك أمعِن النَّظر، يدَين تبطشُ بهما كَمَا تشاء، ورجلين تمشي بهما كمَا تُريد، عينٌ تُبصر، وأذنٌ تسمَع، وقلبٌ ينبض، ودمٌ يتدفَّق، ومناعة تدفع عنك الأذى وأنتَ لا تعلم، أليست كافية لتدُلَّك على الله، وعلى شدة رحمته، وقربَ لُطْفه، وبالغ عنايته؟

كل هذه الأدلَّة التي أودعها الله في الكون ماهي إلا شاهدة عليه، دالَّة على وجوده، وعلى علمِه، وكمالِه، ورحمتِه، وحكمتِه، وقدرتِه، وعلى استحقاقه وحده للعبادة، والتسليم له في أوامره ونواهيه، وحريٌّ بالإنسان المنكر لوجود الله أن يتأمل فيها وفي استحالة وجودها دون فاعل، وحريٌّ بالمؤمن بالله أن يزداد به يقينًا، ومنه قربًا، ولأوامره طاعة، ومن معاصيه بعدًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

شارك المحتوى: