الغاية العظمى: العبودية لله سبحانه وتعالى

الغاية العظمى: العبودية لله سبحانه وتعالى

(مظاهر التعبد لله في الشريعة، الأذكار أنموذجًا)

بقلم: إبراهيم بن محمد صديق

 

 

  ﷽

خلق الله النَّاس وهيَّأ لهم استعمار الأرض، وسخَّر لهم كلَّ ما فيها من خيرات، ولم يتركهم عبثًا، بل وضع لهذا الإنسان غايةً عظمى ليعيش حياتَه لأجلها، وهي: العبوديَّة لله سبحانه وتعالى، ففطرَه عليها، وأنزل آدم عليه السَّلام وهو مؤمنٌ بربه، عابدٌ له، فلمَّا مرَّ الزمان وحصل الشرك أرسل الله الرُّسل وأنزل الكتب، وكلُّ رسول يقول:ٱعۡبُدُواْ ‌ٱللَّهَ ‌مَا ‌لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُ [الأعراف: ٥٩]، فكان مجيءُ الرسلِ كلِّهم من أجل إيصال رسالة الله للبشريَّة؛ ليعبدوه ويشكروه ويعظِّموه.

ولا ريب أنَّ الله سبحانه وتعالى هو المستحقُّ للعبادة دون سواه، وذلك لكماله في أسمائه وصفاته وأفعاله، ولتفرُّده بإنعامه على خلقه، فهُما الموجبان لاستحقاق العبادة، كما يقول ابن القيم رحمه الله: «ولمَّا كانت عبادته تعالى تابعةً لمحبته وإجلاله، وكانت المحبَّة نوعين: محبة تنشأ عن الإنعام والإحسان فتوجب شكرًا وعبوديَّة بحسب كمالها ونقصانها، ومحبة تنشأ عن جمال المحبوب وكمالِه فتوجب عبوديَّة وطاعة أكمل من الأولى؛ كان الباعث على الطاعة والعبودية لا يخرج عن هذين النوعين» مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، لابن القيم (٢/ ٨٩). (١)، فإذا اجتمع للعبد حاجتُه إلى الإله الكامِل وافتقارُه إليه، وعرَف أسماءه وصفاته وأفعاله وكماله وجلالَه مع شهودِ نِعَمه عليه وأنَّها من الله وحده، كان ذلك داعيًا إلى إفراد الله بالعبادة.

والتعبُّد لله سبحانه وتعالى لا ينحصر في أداء الشعائر فحسب، فالعبادةُ «اسمٌ جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة» العبودية، لابن تيمية (ص: ٤٤). (٢)، وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيَّه أن يبيِّن عبوديته المطلقة لله، فقال: قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ‌وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ [الأنعام: ١٦٢]، فكلُّ حياة الإنسان إنَّما هي لله سبحانه وتعالى، والعبوديَّة قضيةٌ ينبغي أن تهيمن على حياةِ المسلمِ كُلِّها، وقد كانَ النبيُّ ﷺ أوّلَ من يُظهر مظاهِرَ العبودية لله، فتجد ذلك في كلامِه وأفعالِه وحركاتِه وسكناتِه، ولا ريب أن الأنبياء عليهم السلام هم أكثر الناس عبودية لله سبحانه وتعالى، وفي مقدمتهم نبينا محمد ﷺ فقد كان أكمل الناس في عبوديته، وقد وصف الله نبيَّه محمَّدًا ﷺ بالعبوديَّة في أشرف المقامات وأعلاها، فوصفه بها في الإسراء فقال: سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ ‌أَسۡرَىٰ ‌بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُ [الإسراء:١]، ووصفه بها عند الوحي إليه؛ خاصة في تلك المقامات العليا في المعراج فقال: فَأَوۡحَىٰٓ ‌إِلَىٰ عَبۡدِهِۦ مَآ أَوۡحَىٰ [النجم:١٠]، ووصفه بها حين ذكر إنزال أشرف كتاب إليه وهو القرآن فقال: ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ ‌عَلَىٰ ‌عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ [الكهف:١].

فهذه أشرفُ المقامات وأجلُّها وقد وصفه الله فيها بالعبوديَّة لكونه عليه الصلاة والسلام أكمل الناس عبوديَّة لله، فهو أتقى النَّاس، وأخشع النَّاس، وقد ذكر ذلك عليه الصَّلاة والسَّلام عن نفسه حين جاءَه ثلاثةُ نفرٍ؛ ادعى أحدهم أنَّه لن يأتي النساء، والآخر أنَّه لن ينام، والثالث أنه لن يأكل اللحم، فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: «أما والله إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأفطر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سنَّتي فليس مني» أخرجه البخاري، حديث رقم (٥٠٦٣). (٣)، وقد أمره الله بالعبادة فقال:وَٱعۡبُدۡ رَبَّكَ ‌حَتَّىٰ ‌يَأۡتِيَكَ ٱلۡيَقِينُ [الحجر:٩٩].

وهذه العبوديَّة لله بادية في أقوالِه وأفعالِه وعباداتِه وصيامه وقيامه حتى تتفطَّر قدماه عليه الصلاة والسلام، وتظهر أيضًا في أذكاره التي يداوم عليها ويحثُّ عليها.

والأذكار من أكثر ما يظهر فيه تعبُّدُ الإنسان لله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أنَّ الأذكار التي شُرعت في الدين -مطلقةً ومقيَّدة- تحمل الكثير من الفضائل، فمنها: أنَّها خير أعمال الإنسان له، وأزكاها عند اللهينظر: سنن الترمذي، حديث رقم (٣٣٧٧). (٤)، ومنها: أنَّ الذاكر لله يذكرهُ الله بأفضل من ذكرِ العبد لهينظر: صحيح البخاري، حديث رقم (٧٤٠٥). (٥)، ومنها: أنَّ فيها إقرارًا بتوحيد الله، وباستحقاقه للعبادة وحده، وفيها تذلٌّلٌ له، وبيانُ الافتقار إليه، يقول ابن القيم رحمه الله: «الذِّكر شجرةٌ تثمر المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السَّالكون، فلا سبيل إلى نيل ثِمارها إلا من شجرةِ الذِّكر، وكلَّما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلُّها كان أعظمَ لثمرتها، فالذِّكر يُثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التَّوحيد، وهو أصل كلِّ مقام وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها»الوابل الصيب من الكلم الطيب، لابن القيم (ص: ٦٥). (٦).

ولا شكَّ أنَّ كثرة الذِّكر واستحضارَ المعاني التي في الأذكار ممَّا يقرّب الإنسان إلى الله، وكلما ازداد الإنسان ذكرًا لله ازداد محبةً له، وكلما ازداد محبةً له ازداد عبوديَّة، فحريٌّ بالمسلم أن يكون دائم الذِّكر لله، وأن يلتزم بالأذكار والأدعية المطلقة والمقيَّدة، وهي مع كثرة فضائلها دليل أيضًا على تذلل الإنسان وتعبُّده لله، ومن تأمَّل أدعية النَّبي صلى الله عليه وأذكاره وجد فيها معنى التعبُّد لله، والخضوع له، والافتقار إليه، وتسليم الأمر كله له، وأنه لا مستحق للعبادة سواه، وفي هذه الورقة أعرِّج على بعض الأذكار النبويَّة، وما تحتويه من معاني التعبُّد لله سبحانه وتعالى، وبيان الافتقار إليه.

 

سيِّد الاستغفار:

من تلك الأذكار: قول النبي ﷺ: «سيِّد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنَّه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النَّهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنَّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنَّة»([٧]).

وهذا الذكر من الأذكار الجامعة للمعاني الجليلة، والتي ينبغي لكل مسلم أن يداوم عليها، وقد سماه النبي ﷺ: سيِّد الاستغفار، وهو مشتملٌ على معاني التعبُّد والتذلُّل لله سبحانه وتعالى، كما أنه جامعٌ لأهم ما يدلُّ على استحقاق الله للعبادة، وهو: كمالُ الله سبحانه وتعالى، وإنعامُه على خلقه، فكون الله سبحانه وتعالى خالقًا لهذا الكون العظيم، مدبِّرًا له، متصرِّفًا في كلِّ شؤونه، كاملًا في صفاته، مع ما عليه الإنسان من ضعفٍ واحتياجٍ وافتقارٍ إلى هذا الكامل ؛ يقتضي أن يُفرد بالعبادة وأن لا يُشرك معه غيره، كما أنَّ إنعام الله على خلقه وإكرامه لهم يقتضي أيضًا أن لا يعبدوا غيره وأن يفردوه بالعبادة، وهذا الذكر جامع لهذين المعنيين.

فقوله: «اللهم أنت ربِّي» فيه تذلُّلٌ لله وخضوعٌ له، وبيانٌ لحال الإنسان، وأنَّه ضعيف فقيرٌ محتاجٌ إلى الله، وهو استهلالٌ للدعاء بذكر ربوبيَّة الله وكونِه مدبرا للكون، مالكًا لكل شيء، فيبدأ الإنسان ذكره باعترافه بربوبيَّة لله، وينبني عليه: خضوع الذَّاكر له.

وقوله: «لا إله إلا أنت» أي: لا مستحق للعبادة إلا أنت، فحقَّق توحيد الرُّبوبيَّة أوَّلًا ثم ذكر ما يلزمه من توحيد الألوهية، فمقتضِي استحقاق الله للعبادة هو كمال الله في نفسه، وكونه مالكًا لكل شيء، وخالقًا لكل شيء، والربُّ الخالق هو الذي يستحقّ أن يعبد، ولذا عقبه بقوله: «خلقتني وأنا عبدك» فذكر أخص صفة من صفات الربوبية وهي الخلق، وبيَّن أنه عبدٌ مخلوق لله سبحانه وتعالى، ومَن هذا حاله فإنَّه محتاجٌ إلى خالقه، مفتقرٌ إليه، فهو عبدٌ له لا يَعبُدُ سواه.

وقوله: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» فيه التزامٌ تامٌّ بالعبوديَّة لله سبحانه وتعالى، والتزام بفعل أوامره سبحانه وتعالى واجتنابٌ لنواهيه، وفي هذا أيضًا إرجاعٌ  لنفسه إلى الفطرة التي خلق الله الخلق عليها، فهي العهد الذي أخذه الله على بني آدم، ومقتضاها عبادة الله وحده، يقول ابن بطال: «قوله ﷺ: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» يعني: العهد الذى أخذه الله على عباده في أصل خلقهم حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذرّ وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ ‌أَلَسۡتُ ‌بِرَبِّكُمۡۖ قَالُواْ بَلَىٰ [الأعراف:١٧٢]، فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوحدانيَّة، والوعد: هو ما وعدهم تعالى أنَّه من مات لا يشرك منهم بالله شيئًا وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغي لكلِّ مؤمنٍ أن يدعو الله تعالى أن يميته على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى من وفَّى بذلك اقتداء بالنبيِّ ﷺ في دعائه بذلك»شرح صحيح البخاري، لابن بطال (١٠/ ٧٥-٧٦). (٨).

وقوله: «أبوءُ لك بنعمتك عليَّ» يبيِّن فيه النَّبي ﷺ سببًا آخر من أسباب استحقاقه للعبادة، فإنَّ المستحِقَّ للعبادة يستحقُّها لكماله في نفسه ولإنعامه على خلقه كما سبق، فبيَّن كمالَه في نفسِه بذكرِ رُبوبيَّته، ثمّ ذكرَ السَّببَ الثاني وهو: إنعامُه على خلقه، ثمَّ قال: «وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»، وهو مقصوده من الدعاء، فقد بيَّن تعبُّده لله لكماله، ثم استحقاقه للعبادة؛ لأنَّه هو المنعم عليه، ومع ذلك فإنَّ الإنسان بالرُّغم من خلق الله له وإنعامه عليه لا يخلو من الذُّنوب ولا غافرَ له إلا الله، فلا يطلب المغفرة إلا منه من أيِّ ذنبٍ كان، سواء كان تقصيرًا في أداء شكر النِّعم أو الذنوب مطلقًاينظر: فتح الباري، لابن حجر (١١/ ١٠٠). (٩).

ويتبيَّن مِن هذا أن هذا الذِّكر من الأذكارِ العظيمةِ التي ينبغي أن يُحافِظ عليها المُسلمُ صَباحًا ومساءً، وهو جامعٌ لمعاني التَّوبة والتعبُّد والتذلُّل لله سبحانه وتعالى، والإنابة إليه، والخضوع له، ولذا وصفه النَّبي ﷺ بأنَّه سيِّد الاستغفار؛ يقول ابن أبي جمرة رحمه الله: «جمع ﷺ في هذا الحديث من بديعِ المعاني وحَسَنِ الألفاظ ما يحقُّ له أنه يُسمَّى سيِّد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالإلهيَّة والعبوديَّة والاعتراف بأنَّه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرّجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النَّعماء إلى موجدها، وإضافة الذَّنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنَّه لا يقدر أحدٌ على ذلك إلا هو»المرجع السابق. (١٠).

وممَّا يبيّن عِظَم ما جاء في هذا الذِّكر: الأجرُ العظيم الذي رتَّبه النبي ﷺ عليه بقوله: «من قالها من النَّهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنَّة، ومن قالها من الليل وهو موقنٌ بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنَّة».

وإنَّما حاز المحافظ على هذا الذِّكرِ الأجرَ العظيمَ؛ لأنَّه افتتح نهارَه وليلَه بالإقرار بربوبيَّة الله والاعتراف له بأنَّه الخالق وحده، وكذا الاعتراف بألوهيَّته والإقرار بها، ثم بيان عبوديته لربه وأنه لا مستحق للعبادة إلا هو؛ لأنَّه هو الخالق، ولأنه هو المنعم، ثم ختم دعاءه بطلب المغفرة التي لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى، فهو في كل صغيرة وكبيرة محتاجٌ إلى ربه، مفتقرٌ إليه، وهذا غاية التعبد والتذلل لله سبحانه وتعالى.

 

أسلمتُ نفسي إليك:

ومن الأذكار النَّافعة: ما ورد في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله ﷺ: «إذا أتيت مضجعَكَ فتوضَّأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقِّك الأيمن ثمَّ قُل: اللهم إنِّي أسلمت نفسي إليك، ووجَّهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلَّا إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيَّك الذي أرسلت، فإن متَّ من ليلتك متَّ وأنت على الفطرة، واجعلهنَّ من آخر كلامك» صحيح البخاري، حديث رقم (٣٦١٥)، وصحيح مسلم، حديث رقم (٢٧١٠). (١١).

وهذا حديثٌ عظيمٌ يشتمل على آدابٍ يحسن بالمسلم التقيُّد بها، والالتزام بها عند نومه، ومن أجلِّها: الوضوء؛ ليكون المسلم على طهارة، ثم يذكر هذ الذِّكر الجليل الذي يحتوي على معاني العبوديَّة والتسليم لله سبحانه وتعالى.

فقوله: «أسلمت نفسي إليك»، أي: استسلمت لأمركَ الكوني والشرعي، فهو يحوي الاستسلام بنوعيه، وهما:

١) الاستسلام لله والانقياد له كونًا؛ بحيث يسلِّم الإنسان نفسه لله، ويعلم أنَّه لا يضرُّ نفسه ولا ينفعها، ولا يملك لنفسه شيئًا، بل هو تحت تدبير الله وتصرُّفه، يقول ابن حجر رحمه الله: «قوله: «أسلمت» أي: استسلمت وانقدت، والمعنى: جعلت نفسي منقادةً لك، تابعة لحكمك، إذ لا قدرة لي على تدبيرها ولا على جلب ما ينفعها إليها ولا دفع ما يضرها عنها»فتح الباري، لابن حجر (١١/ ١١٠)، وينظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (٣/ ١٨٨). (١٢).

٢) الاستسلام لأمر الله الشَّرعي، فينقاد لله في أوامره ونواهيه، ويلتزم بما شرعه وينتهي عمَّا نهى عنه، وكأنَّه يقول: سلمت أمري كله لك يا الله، فما أمرت به فعلته، وما نهيت عنه انتهيت عنه؛ لأنَّ حياتي كلها لك وحدك، يقول الطيبي: «فقوله: «أسلمت نفسي» إشارة إلى أن جوارحه منقادة لله تعالى في أوامره ونواهيه» شرح المشكاة، للطيبي (٦/ ١٨٧٤). (١٣).

وقوله: «فوضت أمري إليك»، يعني التوكل على الله، وتفويض كل الأمور إليه.

ففي هذا الذكر: التذلُّل لله، والخضوعُ له، وتسليمُ كلِّ الأمور إليه، فيفوِّض أمره له، ويوجه وجهه إليه، ويلجئُ ظهره إليه، فالله بيده مقاليد السموات والأرض، ونواصي العباد كلها معقودة بقضائه وقدره يقضي فيهم بما أراد، ويحكم فيهم بما شاء.

وقوله: «رغبة ورهبة إليك» أي: عملي واستسلامي لله وانقيادي له رغبةً فيما عند الله، ورهبة من عقابه وعذابه ينظر: فتح الباري، لابن حجر (١١/ ١١١). (١٤). فالإنسان يعبد الله سبحانه وتعالى ويعلم أنه أعدّ للمحسنين الثواب العظيم، وللمسيئين العقاب الأليم، فيرجو رحمة الله وثوابه، ويخاف من عقابه، وهذا دأب الأنبياء والصالحين، يعبدون الله سبحانه وتعالى وهم ما بين خوفٍ ورجاء، كما قال الله تعالى: إِنَّهُمۡ كَانُواْ ‌يُسَٰرِعُونَ ‌فِي ‌ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَيَدۡعُونَنَا رَغَبٗا وَرَهَبٗاۖ [الأنبياء:٩٠].

وقوله: «آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت» فيه بيانٌ لاستسلام الإنسان لما ورد في الكتاب والسنة، وأن تكون عبادة الإنسان كلها مبنيَّة عليهما. وهما المصدران اللذان يتمسك بهما الإنسان ويبني حياته عليهما ولا يعبد الله إلا بما شرعه فيهما، فالتمسك بهما غاية التعبد لله لأنه يلتزم بأوامرهما وينتهي عند نواهيهما.

وفي آخر الحديث بيانٌ لفضل هذا الذكر، فمن قالها ومات من ليلته فقد مات على الفطرة، أي على الإسلام والاستسلام لله سبحانه وتعالى، ذلك أنه يحتوي على معاني العبودية لله سبحانه وتعالى كما سبق بيانه.

 

عبدُكَ وابنُ عبدِك:

ومن تلك الأذكار التي أمر النبي ﷺ بالالتزام بها: قوله ﷺ: «ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابه همٌّ أو حزن: اللهم إنِّي عبدُك وابنُ عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذهاب همِّي، إلا أذهب الله عز وجل همَّه، وأبدله مكان حزنه فرحًا. قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات. قال: أجل، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنَّ» مسند الإمام أحمد، حديث رقم (٤٣١٨)، وصحيح ابن حبان، حديث رقم (٣٠٧٣)، وقال عنه شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. (١٥).

لا شكَّ أنَّ الإنسان يُصاب بآلامٍ وأحزان، ويَرِدُ على قلبه من الهمِّ والغمِّ والحزن ما يكدِّرُ عيشه في الحياة الدُّنيا، ولذا أمرَ النَّبيُّ ﷺ كلَّ من جثَمَ الهمُّ على قلبه أن يذكر هذا الدعاء، ويتأمَّل في معانيه، ويلتزم بها، فإنَّ في ذلك جلاءً للهمِّ الذي هو فيه.

وقد بدأ النبي ﷺ الذِّكرَ ببيان العبوديَّة التامَّة لله، فالإنسانُ ما هو إلا عبدٌ لله خاضعٌ له، والله هو من يدبِّر أمره، فيعترف لله بذلك ويقول: «اللهم إنِّي عبدُك وابن عبدك وابن أمتك» ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا الهروي (٤/ ١٧٠١). (١٦)، فالعبوديَّة لله والاعتراف بها هي المقدّمة التي يبدأ بها الإنسان شكوى ألمه لربِّه.

ثمَّ يثنِّي ببيان كون العبد خاضعًا لله، مملوكًا له وحده، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فكلُّ ما يفعله الإنسان ما هو إلَّا تحت مشيئة الله وإرادتِه، وكلُّ ما يصيب الإنسان ما هو إلا بإرادة الله وقضائِه، ولذا يقول: «ناصِيَتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك».

ثمَّ يقول: «عدلٌ فيَّ قضاؤُك» وفي هذا بيانٌ لكمال عدل الله، فمهما قُدِّر على الإنسان فإنَّه يعلم أنَّه عدلٌ من الله، وفي هذا استسلامٌ له في قضائه وقدره، وكذا في أوامره ونواهيه، فكل ما أمر الله به ونهى عنه فهو عدلٌ ورحمة ومصلحة للعباد، قال الطيبي: «أظهر أولًا غاية ذلَّتهِ وصَغاره ونهاية عجزِه وافتقاره، وثانيًا: بيَّن عظمة شأنه وجلالَة اسمِه سبحانه، بحيث لم يبق فيه بقيَّة، وألطف في المطلوب حيث جعلَ المطلوب وسيلةً إلى إزالة الهمِّ المطلوب، وجعل القرآن ربيع القلب، وهو عبارة عن الفرح؛ لأنَّ الإنسان يرتاع قلبه في الربيع من الأزمان، ويميل إليه في كل مكان»ينظر: المرجع السابق. (١٧).

فهذه كلمات عظيمة ينبغي للمُسلم أن يعتنيَ بها ويردِّدها كلَّ ما أصابه همٌّ أو حزن، ويعرف معانيها، ويعمل بمقتضاها؛ بأن يتذلَّل لله، ويتعبد له، ويبيِّن ضعفه وافتقاره إليه، وأنَّه لا منجى ولا ملجا منه إلا إليه.
 

وإذا تأمَّلنا هذا الذِّكر نجد أنَّ الإنسان لا سبيل له إلى نيل السعادة إلا بأمرين مهمين، وهما:

١) الاعتراف بحاجة العبد إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتراف بأنه عبدٌ وابن عبدٍ وأمة، فكلُّ الناس مخلوقون مربوبون لله سبحانه وتعالى ويظهر هذا جليًّا في بداية الذكر، فإذا عرف الإنسان أنه مربوب لله مملوكٌ له وأنه سبحانه هو وحده الخالق الرازق المنعم=تذلل له وأحسن شكره، يقول ابن القيم رحمه الله: «فتضمّن هَذَا الحَدِيث الْعَظِيم أمورا من الْمعرفَة والتوحيد والعبوديّة مِنْهَا أَن الدَّاعِي بِهِ صدَّر سُؤَاله بقوله إِنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك وَهَذَا يتَنَاوَل مَن فَوْقه من آبَائِهِ وأمهاته إِلَى أَبَوَيْهِ آدم وحوّاء وَفِي ذَلِك تملّق لَهُ...واعتراف بِأَنَّهُ مَمْلُوكه وآباؤه مماليكه وَأَن العَبْد لَيْسَ لَهُ غير بَاب سيّده وفضله وإحسانه وَأَن سيّده إِن أهمله وتخلّى عَنهُ هلك وَلم يُؤوه أحد وَلم يعْطف عَلَيْهِ بل يضيع أعظم ضَيْعَة فتحت هَذَا الِاعْتِرَاف أَنِّي لَا غنى بِي عَنْك طرفَة عين وَلَيْسَ لي من أعوذ بِهِ وألوذ بِهِ غير سيّدي الَّذِي أَنا عَبده وَفِي ضمن ذَلِك الِاعْتِرَاف بِأَنَّهُ مربوب مدبّر مَأْمُور مَنْهِيّ إِنَّمَا يتصرّف بِحكم العبوديّة لَا بِحكم الِاخْتِيَار لنَفسِهِ»  الفوائد، لابن القيم (ص: ٢٢). (١٨).

٢) الاستسلام لله والانقياد له فيما قضاه وقدَّره، فإذا عرف العبدُ أنَّ كلَّ ما يحصل للإنسان فهو بقضاء الله وقدَره، وأنَّه لا ملجأ للإنسان ولا ملاذ له إلا ربه، أسلم أمرَه لله، وأوكله جميع شؤونه، بل أدى ذلك إلى تحقيق العبودية التامَّة لله سبحانه وتعالى؛ لأنَّه إذا علم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئَه، وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ الناس لا يملكون له نفعًا ولا ضرًّا لم يخَفْهم ولم يرْجُهم بل حقَّق توحيده لله سبحانه وتعالى، فيستقيم له توحيده وعبوديته لله، يقول ابن القيم رحمه الله: «وَمَتى شهد العَبْد أَن ناصيته ونواصي الْعباد كلهَا بيد الله وَحده يصرفهم كَيفَ يَشَاء لم يخفهم بعد ذَلِك وَلم يرجهم وَلم ينزلهم منزلَة المالكين بل منزلَة عبيد مقهورين مربوبين المتصرّف فيهم سواهُم والمدبّر لَهُم غَيرهم فَمن شهد نَفسه بِهَذَا المشهد صَار فقره وضرورته إِلَى ربه وَصفا لَازِما لَهُ وَمَتى شهد النَّاس كَذَلِك لم يفْتَقر إِلَيْهِم وَلم يعلّق أمله ورجاءه بهم فاستقام توحيده وتوكّله وعبوديته»  المرجع السابق (ص: ٢٣). (١٩).

وفي هذا الحديث عنايةٌ عظيمةٌ بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وعبوديَّة الإنسان مرتبطةٌ بها أشد الارتباط، فكلَّما كان الإنسان أكثر معرفةً بالله وبأسمائه وصفاته كان أكثر حبًّا له، وخشيةً منه، وتحقيقًا لعبوديَّته، وإيمانًا بقضائه وقدره، يقول ابن القيم رحمه الله: «فالإيمان بالصِّفات ومعرفتها، وإثبات حقائقها، وتعلُّق القلبِ بها، وشهوده لها: هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السَّالكين، وحاديهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممِهم إذا قصروا، فإنَّ سيرهم إنَّما هو على الشَّواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير له، ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد: صفاتُ محبوبِهم، ونهاية مطلوبِهم» مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (٣/ ٣٢٧). (٢٠).

 

وإليكَ أَنَبتُ:

ومن تلك الأذكار العظيمة التي بيَّن فيها النَّبي ﷺ تعبُّده لربِّه، ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: كان النَّبي ﷺ إذا قامَ من اللَّيل يتهجَّد قال: «اللهم لك الحمد أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك مُلك السماوات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت مَلِكُ السَّموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت الحقُّ، ووعدك الحق، ولقاؤُك حقٌّ، وقولك حق، والجنَّة حق، والنَّار حق، والنَّبيون حق، ومحمَّد ﷺ حق، والسَّاعة حق، اللهم لك أسلمْت، وبك آمنْت، وعليك توكَّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت» صحيح البخاري، حديث رقم (١١٢٠). (٢١).

وفي هذا الدُّعاء ابتهالاتٌ وخضوعٌ لله سبحانه وتعالى، وتسليمُ الأمر له، فقد بدأه النبي ﷺ بحمدالله سبحانه وتعالى والثَّناء عليه، يقول: «اللهم لك الحمد أنت قيِّمُ السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمدُ أنت مَلِكُ السَّموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت الحقُّ».

ثمَّ يُقِرُّ الذّاكر بالبعثِ والجزاء والجنَّة والنَّار والأنبياء.

وقوله: «لك أسلمت»، أي: بعد مدح الله والثَّناء عليه، وذكرِ الاعتراف، والإقرار بكثير من الأمور كالبعث والجنَّة والنَّار؛ يبيِّن الإنسان أنَّه يسلِّم أمره لله وينقاد له، فهو عبدٌ مطيعٌ لله سبحانه وتعالى، يجري عليه قضاؤُه وقدره، وكذلك يأتمر بأوامر الله وينتهي عند نواهيه، ويعلم أنَّ ما شرعه الله فيه الخير كله، يقول ابن بطال: «وقوله: «لك أسلمت» معناه: انقدتُ لحكمك وسلمت ورضيت» شرح صحيح البخاري، لابن بطال (٣/ ١٠٩). (٢٢)، وقال بدر الدين العيني: «قوله: «اللهم لك أسلمت»، أي: انقدت وخضَعْتُ لأمرك ونهيك، واستسلمتُ لجميع ما أمرت به ونهيت عنه»عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (٧/ ١٦٧)، وينظر: الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، لشمس الدين الكرماني (٦/ ١٨٣). (٢٣).

ويكرّر الإنسانُ هذا الاستسلامَ لله في تقديره وفي أوامره ونواهيه، فيقول: «وإليك أنبتُ» أي: «أطعت أمرك، والمنيب: المقبلُ بقلبه إلى الله» شرح صحيح البخاري، لابن بطال (٣/ ١١٠). (٢٤)، يقول العيني: «قوله: «وإليك أنبت»، أي: رجعتُ إليك في تدبير أمري، والإنابة: الرجوع، أي: رجعت إليك مقبلًا بالقلب عليك، ومعناه: رجعت إلى عبادتك» عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (٧/ ١٦٧). (٢٥). فالتسليم لله -كما مرَّ بنا- يشمل المعنين؛ معنى التسليم لقضائه وقدره، ومعنى التسليم والانقياد له باتباع أوامره واجتناب نواهيه.

ثم يُوكِلُ الإنسان كلَّ أموره لله ويفوِّض أمره إليه، فيقول: «وعليك توكلت» فيفوض أمره لله ويتبرأ من حوله وقوته، ويوقن أنه لن يخرج عن قضائه وقدره.


 

ولكَ أسلمتُ:

من الأذكار المهمة أيضًا: ما جاء في صفة صلاة النَّبي ﷺ أنَّه: إذا ركع، قال: «اللهم لكَ ركعت، وبكَ آمنت، ولك أسلمْت، خشع لَكَ سمعِي، وبصرِي، ومخِّي، وعظمي، وعصبي...وإذا سجد، قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمْت، سجَدَ وجهيَ للذي خلقَه، وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين» صحيح مسلم، حديث رقم (٧٧١). (٢٦).

وفي ذكر النبي ﷺ في الصَّلاة ثناءٌ على الله ومدحٌ له، ثمَّ بيانٌ من النَّبي ﷺ كمالَ عبوديته لله وكونها شاملة لكلِّ شيء فيقول: «بك آمنت ولك أسلمت» أي: انقدت لك، واتبعت أوامرك، وانتهيت عن نواهيك، وأخلصت وجهي لك، يقول الملا الهروي: «ولك أسلمت، أي: لك ذللت وانقدت، أو لك أخلصت وجهي، أو لك خذلت نفسي وتركت أهواءها» مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري (٢/ ٦٧٤). (٢٧).

ثم بيَّنَ النبي ﷺ كمال هذه العبودية والخضوع لله سبحانه وتعالى، فيقول: «خشَعَ لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي» فكلُّ شيء خاضعٌ لعبوديَّته سبحانه وتعالى، والإنسان بكل جوارحه خاضعٌ له، ذليلٌ عنده، كما أنه عليه الصلاة والسلام ربط عبوديته لله بربوبية الله وأفعاله، فيقول: «سجَدَ وجهيَ للذي خلقه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين».

 

أخيرًا:

هذه بعض الأذكار التي حثَّ النَّبي ﷺ عليها، وهي حاويةٌ لمعاني الخير، ونجد فيها معاني العبوديَّة لله سبحانه وتعالى، والتذلُّل له، والاستسلام لقضائه وقدره، ومن تأمل فيها يدرك عددًا من الأمور، وهي:

أولًا: الارتباطُ الوثيق بين ربوبيَّة الله وخلقه لعباده وبين العبودية لله، وقد مرَّ بنا سابقًا أن كمال الله في نفسه وربوبيَّته لخلقه يقتضي استحقاقه للعبادة، ولذا نجد في عددٍ من الأذكار ربطَ العبودية لله بخلقه للخلق وربوبيَّته لهم، وتدبيره للكون، وكونه مالك كلِّ شيء.

ثانيًا: العلاقة بين العبادة والإنعام؛ فإذا كان خلق الله للناس يقتضي العبوديَّة له، فإنَّ الإنعام أيضًا ممَّا يُوجب استحقاقه للعبادة، ذلك لأن العبد يتقلَّب في نعم الله، وليس له منعمٌ إلا الله، فوجب أن يُفرد بالشكر، وأول مقامات شكر النِّعم أن يُفرد الله بالعبادة.

ثالثًا: العلاقة بين العبوديَّة في الأذكار والعمل: نجد في هذه الأذكار وغيرها التَّعبدَ التَّام لله والإقرار بذلك، والمطلوبُ من الإنسان هو تحقيقُ ذلك في حياتهِ عملًا وفعلًا، فإنَّه حين يذكر الله ليلَ نهارٍ بهذه الأذكار، ويعلم أنَّ الله هو الرَّب المالك الخالق المُنعم المستحقُّ للعبادة دون سواه؛ فإنَّه ينبغي له أن يطبِّق هذا في حياته فيفرده بالعبادة، يقول ابن القيم رحمه الله: «فتأمَّل الآن تفاصيل عبوديَّة الصَّلاة، كيف لا تتمُّ إلا بشهود فعلك الذي متى غبت عنه كان ذلك نقصًا في العبودية. فإذا قال المصلِّي: وجَّهت وجهيَ للذي فطر السَّماوات والأرض حنيفًا، فعبوديَّة هذا القول أن يشهد وجهه، وهو قصده وإرادته، وأن يشهد حقيقتَه، وهي إقباله على الله. ثمَّ إذا قال: إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي ‌وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ [الأنعام:١٦٢]، فعبوديَّة هذا القول أن يشهد الصَّلاة والنُّسك المضافين إليه لله...وكذلك إذا قال في قراءته:إِيَّاكَ ‌نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ،[الفاتحة:٥] فعبودية هذا القول: فهم معنى العبادة والاستعانة واستحضارهما، وتخصيصهما بالله، ونفيهما عن غيره، فهذا أكمل من قول ذلك بمجرد اللسان» مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن القيم (١/ ٢٨٢). (٢٨).

وهو مقصدٌ مهمٌّ من مقاصد الأذكار، فإنَّها تريد غرس المعاني في نفس الإنسان ليطبقها في حياته لا لتكون مجرد شعارات يرددها.

رابعًا: العبادة والتَّسليم المطلق لله سبحانه وتعالى، فكما أنَّ العبودية في هذه الأذكار مرتبطة بربوبية الله وخلقه فكذلك هي مرتبطة بالتَّسليم لقضاء الله وقدره، لذا نجد التنبيه في كثيرٍ من الأذكار على التَّسليم لله، وقد بينَّا أنَّ التَّسليم لله يكون لقضائه وقدره ولأوامره ونواهيه، فالإنسان يحتاج إلى التعبُّد لله والتَّوكُّل عليه، وتفويض الأمور إليه، وهذان البابان من أهمِّ الأبواب التي ينبغي على المسلم الاعتناءُ بهما، فمن سلّم أمره لله وعرف أنه لا ينفعه أحد ولا يضره اكتملت عبوديته، وبقدر النقص في هذا ينقص في العبودية.

خامسًا: كثيرًا ما نجد في الأذكار: معاني الخضوع لله، وإظهار الإنسان الضَّعفَ والافتقارَ والذِّلة، فهو مقصدٌ مهمٌّ أيضًا من مقاصد الذِّكر، فالالتزام والتَّكرار يذكِّر الإنسان بأنَّه ضعيفٌ، دائم الحاجة إلى ربِّه، مفتقر إليه، لا يخرج عن قضائه وقدره، ولا ينفعه أحد ولا يضره، فمالك أمره هو الله سبحانه وتعالى لا سواه، وهو ما يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، يقول ابن القيم رحمه الله: «يتخلَّى بفقره عن أَن يتأَلَّه غير مولاه الحق، وأَن يضيع أَنفاسه في غير مرضاته، وأَن يفرق همومه في غير محابه، وأَن يؤثر عليه في حال من الأَحوال. فيوجب له هذا الخلُق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السرِّ بينه وبين الله، وخلوص الوداد والمحبَّة، فيصبح ويمسي ولا همَّ له غير ربه، قد قطع همه بربِّه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإِرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه» إِيَّاكَ ‌نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ.

سادسًا: تعلق العبودية بالأسماء والصفات، وقد بينا أن الإنسان كلما كان بالله أعرف كان له أخشع، فتذكير الإنسان بأسماء الله وصفاته في أذكاره الصباحية والمسائية يجعله يتقرب إلى الله بمزيد من الطاعات والتعبد لأنه يقترب إلى الله بمعرفته، ولذا نجد أيضا في عدد من الأذكار تقديم ثناء الله ومدحه ثم ربط ذلك بالعبودية لله سبحانه وتعالى، ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، قال ابن القيم: «فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم» المرجع السابق (ص: ٥٩). (٣٠).

سابعًا: كثرة الذِّكر يُعلِّق الإنسانَ بالله، ويكمّل عبوديَّته له، فكُلّما كانَ الإنسانُ أكثرَ ذِكرًا لله اكتملت عبوديَّته؛ لأنَّه ذاكرٌ له دائمًا، يقول ابن تيميّة رحمه الله: «إنَّ أسْرَ القلبِ أعظمُ من أَسرِ البدَن، واستعبادَ القلبِ أعظمُ من استعباد البدن، فإنَّ من استعبد بدنه واسترقَّ لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًّا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأمَّا إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغير الله فهذا هو الذُّل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب»مجموع الفتاوى، لابن تيمية (١٠/ ١٨٦). (٣١)، فقلب المؤمن ينبغي أن يكون عاكفًا على ذكر مولاه والثناء عليه بأسمائه وصفاته، ودائم التوبة والإنابة كما مرَّ بنا في عددٍ من الأذكار، ولهذا أمر الله نبيه بالمداومة على ذكر الله فقال: ‌إِنَّ ‌وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ [غافر:٥٥].

وصلّى اللهُ على نبيّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

شارك المحتوى: