رسوّ الأرض بأوتادها بين الوحي والعلم الطبيعي

رسوّ الأرض بأوتادها بين الوحي والعلم الطبيعي

بقلم: بلال ياسين الخصاونة

تحرير: اللجنة العلمية بمركز حصين

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

عندما تشتري إطارات (عجلات) جديدة لسيارتك قد تشعر بأنّ السيّارة تهتزّ معك، لأنّ الإطار الجديد - مع دقّة صنعه - يتمايل ويهتزّ، فتهتزّ معه السيارة وتضطرب، ولذلك قد ينصحك الفني الخبير عند تركيب الإطارات بالقيام بترصيصها؟ فماذا يقصد؟ وما سبب ذلك؟

هل جرّبت استعمال حوض التجفيف في غسالةٍ ذات حوضين، وتفاجأت أن الحوضَ عند دورانه بدأ يضطربُ ويصدر صوتًا مزعجًا؟ هل فكّرت في سبب ذلك؟

هذه الأرض التي نعيش عليها جِرمٌ مستديرٌ كبيرٌ جدًّا -بالنسبة لنا- يدور حول نفسه بسرعةٍ عالية بحيث يكمل دورته في يومٍ واحد، هل فكّرت يومًا كيف يدور في غايةِ السلاسة وتمام الانتظام، وأنه يمكن أن يضطرب كما يضطرب الإطار وحوضُ التجفيف؟ هل فكّرت كيف جعلَه الله قارًّا هادئًا مع هذه الحركة الدائبة، كما قال سبحانه: ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا؟ [غافر ٦٤].

لنفهم الأمر جيّدًا:

عندما يدور الإطار حول محوره الأفقيّ المعهود (الأزرق)، فإنه يحاول الدوران حول محورٍ آخر (الأحمر) عموديٍّ على المحور الأساس، لكنّه لا يستطيع لأنه مثبّت من هذه الجهة، فلذلك تتحول تلك الحركة إلى حركة ترددية، وهي ارتجاجه في مكانه، مما يؤثر على سلاسة سير المركبة.

هذا والإطار مصمّم بشكل منتظم من حيث الشكلُ الهندسي وانتظامُ توزيع الكتلة على الإطار (كثافة المادة المصنع منها الإطار)، لكن الفروق المصنعية الدقيقة جدًا تظهر كلما ازدادت سرعة الحركة، فما هو الحل؟ الحلّ في إلقاء رصاصاتٍ بكُتل محددة في أماكن محددة على حامل الإطار (الجنط) ليتغير عزم القصور الذاتي (I)سيأتيك تعريفه وتوظيفه. (1) فيصير كبيرًا بما يكفي لمنع حركةٍ تسمى النّود (nutation)، وقليلًا -في نفس الوقت- بما يُبقي على سلاسة الدوران حول المحور الأساس. وهذه الفكرة هي نفسها الفكرةُ المستعملة لحلّ مشكلة حوض التجفيف، فإنّ كتلَ الملابس إذا لم تكن موزعةً فيه بانتظام، فإنه يرتجّ بقوّة، فيكون الحلُّ بإعادة توزيع الملابس من جديد، وتقريب الثقيل منها نحو الوسط (محور الدوران) لينتظم دورانها.

-الحركة النوديّة:

الحركة عند الفيزيائيين للأجسام الجاسئةهي الأجسام الصلبة بحالتها المثالية، بحيث لا تتصف بالميوعة أو المرونة، أو يمكن إهمالهما عند دراسة حركتها. (2) تنقسم لقسمين عامَّين:

- حركة انتقالية: يُدرس فيها انتقال مركز كتلة النظام من موضع لآخر، مثل انتقال سيارةٍ من مدينةٍ إلى أخرى.

- وحركة دورانية: يُدرس فيها حركة أجزاء الجسم الجاسئ حول محور يمر خلاله، مثل دوران الإطار.

ينصّ قانون نيوتن الأول على أنّ الجسم إذا كان ساكنًا أو متحرّكًا بسرعة ثابتة في خط مستقيم، فإنه سيبقى على حالته سكونًا أو حركةً في مساره وسرعته، ما لم تؤثر عليه قوةٌ خارجية تجبره على تغيير ذلك، وهذا المفهوم الفيزيائي يُسمّى: القصور.

بناءً على القانون الأول يعرّف الفيزيائيون كميةً فيزيائية تُسمّى: الكتلة، وهي ما يقيس قصور الأجسام الذاتيّ عن تغيير حالتها الحركية من تلقاء نفسهاالكتلة القصورية مُعرّفة من القانون الأول، والكتلة الجاذبية من قانون الجذب العام، والحسابات تؤدي لتساويهما فلم يعد الفيزيائيون يفرقون بينهما بالتسمية وإن كان هناك فرق في المفهوم، استثمر ذلك آينشتاين في نسبيته العامة فيما يعرف بمبدأ التكافؤ، والمسألة لا تزال محل جدل عند النظريين. (3)، فتكون الكتلة على ذلك: ممانعة الجسم لتغيير حالته الحركية الانتقالية.

في مقابل ذلك تكون هذه الممانعة في الحركة الدّورانية، هي: قصور النظام عن تغيير حالته الحركية الدورانية، وتسمّى: عزم القصور الذاتيGoldstein, Classical Mechanics. p191 (4)، ويرمز له بالرمز (I)وهو رياضيًا مصفوفة ثلاثية مربّعة (بشكل عام)، انظره -غير مأمور- في المرجع السابق. (5).

تحدد قيمة عزم القصور الذاتي محاورَ الدَّوران التي يَسهُل تحركُ الجِسم حولها أو يعسُر، وتعتمد هذه الكمية على كتلة النظام، وطريقة توزّع تلك الكتلةتوزع الكتلة للجسم المتصل أو توزيع الكتل على الفراغ للنظام متعدد الأجسام (كالمجموعة الشمسية مثلًا). (6) في الجسم الذي يدور بالنسبة لمحور دورانه، وعلى ضوء ذلك تتحدد كيفية دوران الجسم حول نفسه متأثرًا بعزم دوران خارجيّ (تأثير القوة التي تُديره).

بناءً على ما سبق يدرُس الفيزيائيون الحركة الدورانية في الفضاء الثّلاثي على ثلاث زوايا (تُسمّى زوايا أويلرClassical Dynamics, Marion p441 (7))، ترجع إليها الحركات الدورانية، وهي: الحركة البَرميّة (المغزلية)، والحركة الطَّوافيّة، والحركة النّوديّة، والصورة أدناه توضح الحركات الثلاث لمجسم طائرة:

فالدوران بالزاوية ϕ هو البَرم ، ويحصل حول المحور (X). والدوران بالزاوية Ψ هو الطّواف، ويحصل حول المحور العمودي (z).

أما التّردّد لأعلى وأسفل على الزاوية θ فهو النّود، ويحصل على المحور (y).

هذه الحركة النوديّة التّرددية، هي حركة الإطار التي تؤدي إلى ارتجاجه في مكانه عند حاجته إلى الترصيص، ولو جمعتها مع الحركة الطوافية نتجت لك خضخضة حوض التجفيف الموصوفة آنفًا.

والآن فلنتأمل دوران كوكبنا على ضوء الزوايا السابق ذكرها، نرى في الصورة أدناه كُرة الأرض تدور حول نفسها بحركةٍ بَرمية حول محور (X) منتجةً الليل والنهار، وهذا المحور مائلٌ عن مِحور تماثُلها (الخط العمودي المقطع)، فلو كانت للأرض حركةٌ نوديةٌ، لتحرّك محور دورانها متردِّدًا على الزاويةθ، مقتربًا تارةً من محور التماثل ومبتعدا تارةً أخرىللأرض حركة طوافية حيث يدور محور دورانها حول محور تماثلها، لكنّها بطيئة جدًّا، بحيث تُتم دورة كل 52 ألف سنة! (8).

إنّ كتلة الأرض غير منتظِمة تمامًا، وتوزيعَ الكتل على أجزاءِ سطحها غير متساوٍ، ففيها بحارٌ ويابسة، وتضاريسُ متفاوتة، وفي باطنها صهارة متحرّكة، لكنّها مع ذلك دوّارةٌ بكلّ سلاسة واتّزان، بلا نودٍ ولا اضطراب! فهل تشتمل الأرض على "رصاصاتٍ" تثبّتها؟ وهل في القرآن إجابةٌ على سؤالنا؟

يقول الله جل وعلا: وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ [النحل: 15].

ويقول سبحانه: وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ [الأنبياء:31].

ويمتنّ سبحانه على خلقه بقوله: وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ [لقمان:10].

 فهذه آياتٌ ثلاث في امتنان الله على خلقه بتثبيت الأرض بالجبال أن تميد بمن عليها.

وذكر في القرآن رسوّ الأرض بالجبال دون ذكر الميد في مواطنانظر: سور الرعد:3، والحجر: 19، والنمل:61، وفصلت:10، وق:7. (9).

وذكر في سورة النازعات أن الجبال نفسها راسية: وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَا.

والآيات تجمع بين معنيين-رسوّ الجبل في الأرض ورسو الأرض بالجبل- وتجد هذا بوصفٍ بليغ في النبأ:وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا.

فما هو الـمَيدُ المقصود بالآيات؟ وهل هو معلومٌ لدى الفلكيين؟

وماذا على الأرض لو مادت؟ وما الذي يُخمِد هذا الـمَيد؟

كيف تُثبِّت الجبالُ الأرضَ وهي جزءٌ منها؟ وما قيمة جبل كتلته ضئيلة نسبة لكتلة كرة الأرض؟

وماذا يترتب على كون الجبل منغرزًا في الأرض كالوتد؟ أيُّ آيةٍ في ذلك أو منفعة؟

- ما هو الميد؟

الـمَيْدُ في اللغة: «التَّحَرُّكُ... وَمَادَتِ الْأَغْصَانُ تَمِيدُ: تَمَايَلَتْ»معجم مقاييس اللغة لابن فارس ص288 (10)، فالميد حركةٌ متمايِلة، كحركة الأغصان مع النّسمات، ولاحظ الفرق في وصف حركة الأغصان بين التمايل والـمَيل.

ويذكر المعجم الاشتقاقي المؤصّل أن المعنى المحوري للـمَيد هو: «دورانٌ أو حركة واسعة تردُّديَّة» المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم، د. محمد حسن حسن جبل ج4 ص45 (11)، والدَّوران فيزيائيًا يمكن اعتباره حركةً تردّديةً بالتماثل الرياضي بينهما، والخاصيّة الدورية للحركةوبناء على هذا تم استحداث أداة رياضية خاصة للتعبير عن الموجات في علم الكهرباء تدعى: (phasors) وعُربت بلا ترجمة: فيزر. (12).

فالميد إذًا حركةٌ تذبذبيّة واضطراب.

وحول هذا المعنى اللغوي دندَن أئمة التفسير:

قال الطبري في تفسير آية النحل: «الميْد: هو الاضْطراب والتَّكفِّي»تفسير الطبري، ج14، ص190. (13).

 وقال البغوي: «هو الاضْطرابُ وَالتَّكَفُّؤُ»تفسير البغوي، ج3، ص74. (14).

وعبّر عن ذلك ملخَّصًا أبو حيان الأندلسي بقوله: «أَن تَمِيدَ: تَحرّكَ وتميلَ»تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب، ص283 (15).

إذا جمعنا هذا مع ما سبق يتضح لنا أنّ الـمَيد -على ما بيّن معناه أهل اللغة والتّفسير- هو ما يعبّر عنه الفيزيائيون بالحركة النّودية، ولذلك يمكننا تسميتها الحركة الميديّة.

-كيف يُخمَدُ الـمَيْد؟

بعدَ أن بينّا مفهوم القصور الذاتي للدوران، وأن كيفية الدوران تعتمد على قيم القصور (مُركِّباته المختلفة) في الزوايا الثلاث (زوايا أويلر)، وأن تفاوت توزيعِ كُتلة الأرض يجعلها جديرة بأن تميد كما يَميد إطار السيارةِ غير المثبت بالرصاصات، فإنّ نظرة في العلم الحديث تُبيّن لنا بكلّ وضوح ما دلّ عليه القرآن، وهو أن "الرّصاصات" التي تعيد التوازن إلى الأرض هي الجبال، فموقع كل جبل على الأرض وكتلته مختارة بعناية بالغة، لتُقتَل الحركة الميديّة وتَسهُل الحركة البرميّة في آنٍ واحد، وهذا مضبوط تمامًا مع سرعة دوران الأرض حول نفسها حيث يضمن هذا التوزيع ثبات هذه

السرعة ومقدارها، وأكبر دليلٍ على تلكم السلاسة والاستقرار هو الحسُّ والشّعور بالقرار وعدم تأثّر السعي فيها وأوجه عمارتها، وعدم اختلاف طول مجموع الليل والنهار على نفس دائرة العرضيتحدث الفلكيون عن ميللي ثانية في تفاوت الأيام تتعدّل من تأثير القمر، ولله في خلقه شؤونٌ وحِكمٌ لا نحيط بها وإن رأينا طرفًا منها. (16).

إنّ كتلة الأرض غير منتظمة التوزيع على سطحها كما هو مُشاهَد، لكنّها مع ذلك راسيةٌ مستقرّة، والخالق المدبّر تبارك وتعالى هدانا لذلك صريحًا في القرآن وامتنّ علينا به، وجَعله دليلًا عليه وعلى جُودِه ولُطفه، لنعرف له ذلك فنشكره ولا نكفرَه، كما جعله آيةً على غائيّة هذا العالم وأنّ من سخّره لم يفعل ذلك عبثًا، بل أراد منا تسبيحه وتقديسه والخضوعَ لعظمته، وعِمارة أرضه بما يُحب ويرضى. تعال معي نتدبّرْ ذلك من كتاب ربنا تبارك وتعالى، وهل أدرك هذا المعنى من سبقنا بالإيمان؟

يفسّر الطبري رحمه الله قوله تعالى في سورة النحل: وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قائلًا: «ومن نعمه عليكم أيها الناس أيضًا، أن ألقى في الأرض رواسي، وهي جمع راسِية، وهي الثوابت في الأرض من الجبال، وقوله أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ يعني: ألا تميد بكم، وذلك كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا والمعنى: أن لا تضلوا. وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقُه الذي على ظهرها، بل وقد كانت مائدةً قبل أن تُرْسَى بها. …. عن قيس بن عبّاد: أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور، قالت الملائكة. ما هذه بـمُقرّة على ظهرها أحدًا، فأصبحت صبحًا وفيها رواسيها)تفسير الطبري، ج14، ص189. (17). ففي الأثر ذكر ميد الأرض قبل الجبال الـمُرسِية لها، وذلك غاية خلقها.

وهذا أحد معاني قرار الأرض، كما في قوله تعالى: أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ [النمل: ٦١] فامتنّ بقرار الأرض على الخلق وذلك أن جعل لها رواسي، فهل إلهٌ مع الله؟ أغيره يَقدر على ذلك؟ أغيره يُقدّر ذلك؟

ويغوص البقاعي على الدرر في قوله تعالى في سورة الأنبياء: وَجَعَلۡنَا فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجٗا سُبُلٗا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ فيقول: «لـمّا كان مِن القُدرةِ الباهِرةِ ثباتُ الأرضِ مِن غيرِ حركةٍ، وكان الماءُ أدلّ دلِيلٍ على ثباتِها، وكانتِ الأرضُ أقربَ في الذِّكرِ مِن السّماءِ، أتبع ذلِك قولَهُ:وجعلنا بِما لنا مِن العظمةِ فِي الأرضِ جِبالًا رواسِي أي ثوابِت، كراهة أن تمِيد بِهِم وتضطرِب فتُهلِك المِياهُ كُلّ شيءٍ حيٍّ فيعُود نفعُها ضُرًّا وخيرُها شرًّا. ولـمّا كان الـمُرادُ مِن المراسِي الشِّدّةَ والحُزُونة لتقوى على الثّباتِ والتّثبِيتِ، وكان ذلِك مُقتضِيًا لِإبعادِها وحِفظِها عنِ الذِّلّةِ واللُّيُونةِ، بيّن أنّهُ أخرق فِيها العادة لِيُعلم أنّهُ قادِرٌ مُختارٌ لِكُلِّ ما يُرِيدُ فقال: وجعلنا بِما لنا مِن القُدرةِ الباهِرةِ والحِكمةِ البالِغةِ فِيها أيِ الجِبالِ مع حُزُونتِها فِجاجًا أي مسالِك واسِعةً سهلةً؛ ثُمّ أبدل مِنها قولهُ: سُبُلاأي مُذلّلةً لِلسُّلُوكِ، ولولا ذلِك لتعسّر أو تعذّر الوُصُولُ إلى بعضِ البِلادِ لعلّهم يهتدُون إلى منافِعِهِم في دِيارِهِم وغيرِها، وإلى ما فِيها مِن دلائِلِ الوحدانِيّةِ وغيرِها فيعلمُوا أنّ وُجُودها لو كان بِالطّبِيعةِ كانت على نمطٍ واحِدٍ مُساوِيةً لِلأرضِ مُتساوِيةً في الوصفِ، وأنّ كونها على غيرِ ذلِك دالٌّ على أنّ صانِعها قادِرٌ مُختارٌ مُتفرِّدٌ بِأوصافِ الكمالِ»نظم الدرر للبقاعي، ج12، ص113-114. (18).

وقد جعل الله تعالى إقرار الأرض مما مدح به نفسه من صفات الجمال والإحسان، كما في قوله:ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ [غافر ٦٤] فتأمل قوله: ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ أي الذي يربّيكم بنعمه وهو لطيف بعباده، لذلك تلاها مباشرة قوله:هُوَ ٱلۡحَيُّ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَٱدۡعُوهُ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَۗ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ[غافر ٦٥]، فمَن هذه صفته وهذا فعله فهو الحيّ الكامل في حياته المحيي لغيره خلقًا وهدايةً: فحقّه أن يُعبد شكرًا وحبًا وتعظيمًا، وحده بلا شريكٍ من الموهومات، ثم ختمَ بحمد نفسه على كماله، وأشار إلى توحيده بحمده، أي: ادعوه مخلصين بالحمدانظر في ذلك: المحرر الوجيز لابن عطية (ج24، ص454) (19).

-تنبيه:

درج كثيرٌ من الباحثين والفضلاء المتحمسّين على القول بأن الجبال راسيةٌ لا مُرسية للأرض، وكأنهم يتحرجون من النصوص الصريحة في ذلك، ولعلّ سبب تحرّجهم بعضُ الأبحاث العصريّة الجيولوجيّة التي تبحث في (جذور الجبال)، وهي دراسات لا تزال مستمرّة، ورسوّ الجبال في الأرض معنى صحيح نطق به القرآن كما في آية النازعات: وَٱلۡجِبَالَ أَرۡسَىٰهَاانظر: تفسير ابن كثير، ج8، ص316. (20)، إلا أنه مقصودٌ لغيره، ولا يعارِضُ قضية إرساء الجبال للأرض، فقد قال تعالى جامعًا بين المعنيين في النّبأ: وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا قال ابن جرير: «يقول: والجبال للأرض أوتادًا أن تميد بكم»تفسير الطبري، ج24، ص9. (21)، وبنحوه قال ابن عطيةتفسير ابن عطية، ج30، ص513. (22)، فليس الوتد هو المنغرس في الأرض وحسبُ! بل هو مثبَّتٌ لغاية التثبيت. فثباتُ الجبل في الأرض في موقعه-لحقب زمانية طويلة- سببٌ لنفي الـمَيَدان؛ كما سلفَ أن ذلك يعتمد على كتلة الجبل وموقعه، فلو تغير موقعه لمادت الأرض، وكذلك كانت قبل خلق الجبالللأرض حركة ميدية يسيرةٌ بمقدار درجتين ونصف على مدار آلاف السنين حول زاوية الميل (زاوية الميل23.5) فكأنه اختلاف في الميل، لا ترنُّح، ومثله يقال في الانزياح القارّي، وتؤدي جاذبية القمر دورًا في التوازن الدقيق جدًا. (23).

-لكن أليست الأرض مائلة؟

لسائلٍ أن يسأل: أليست الأرض مائلةً في دورانها كما أسلفت؟ أفلا يُعدّ ذلك ميدًا؟

والجواب ما سبق: من أنّ الميدَ تمايلٌ لا مَيَلان، فهو حركةٌ تردّدية (دوران لا يتم بسبب قيمة القصور الذاتي فيستحيل تردّدًا) لا ميلٌ ثابت مستقرّ، وأما مَيَلانُ مِحوَر الأَرض للحركة البَرميّة (الليل والنهار)يُسهم في مقدارِ هذه الزاوية: القمر، بكتلته وموقعه. (24)، فشيءٌ آخر.

فإن قيل: أليس هذا الميلانُ عيبًا في الصنعة؟ وأي منفعة في ميلها؟ أم أنها الصدفة العمياء للشروط الأولية إبّان نشوء الأرض؟

والجوابُ أنّ في هذا الميل حِكَمةً باهرة، وخِبرة ظاهرة، تدلّ على علم الخالق وحكمته، فإنّه يساهم في وجود مناخنا الملائم للحياة؛ ولو لم يوجد الميل أو كانت زاويته صغيرة فسيكون الكوكب جافًّا وقاحلًا في أغلب مناطقه، ولكنّه مثبّتٌ بزاويةٍ مناسبة، ولو كان ميلانًا أكبر أو ميدًا (ميلًا غير ثابت) فسيتسبب في تقلبات مناخيّةٍ وخيمة، ومن الممكن ألّا تتوزع الأمطار على أوسع مدى على سطح الأرضorigin of the moon 513-525  (بواسطة: الكوكب المميز لغونزالز وريتشاردز.) (25).

فميلان محور الأرض ضروريٌّ للحياة عليها، بخلاف تمايله ومَيده.

-ماذا لو مادت الأرض؟

وما على الأرض لو مادت بنا؟ الجواب ورد في القرآن وواضحٌ في العقول ويقرّه العلم. فقد ذكر القرآن أن ثبات الأرض نعمة على البشر امتن الله بها عليهم لسهولة الانتفاع بها وعمارتها ومن ذلك السير في فجاجها، ولو كانت الأرض مائدة لاضطربت البحار فماجت، والأنهار ففاضت، وتعذر السفر فيهما ولاختلّ توازن المناخ وهاجت العواصف دائمًا، ولتعذّر على البشر السير في الأرض، وفقدوا العلامات الأرضية والسماوية التي تدل على الوجهة، ولما كانت النجوم علامات للسائرين! فسبحان الرب البديع مسخّر الأرض ذلولًا لنمشي في مناكبها.

-ماذا عن ضآلة كتلة الجبل وحجمه نسبةً لكرة الأرض؟

قد يتبادر تساؤل عن أثر الجبال في إخماد مَيد الأرض، مع ضآلة كتلتها بالنسبة إليها، وهو سؤالٌ مهمّ، والجواب أنّ مقدار حاجةِ الأرض لما يُـخمد ميدَها هو ما تعطيه الجبال لها، كما أنّ رصاصات الإطار مناسبةٌ لمنع ارتجاجه مع ضآلة كتلتهاخذ مثالًا فلكيًا من المجموعة الشمسية، كم هي ضئيلة كتل كواكبها نسبة لشمسها؟ هل تدور الكواكب حولها؟ الجواب الدقيق: لا، هي تدور حول مركز كتلة النّظام. وهذا المركز يقع داخل الشمس قرب مركزها كُرَتها، وتأثير ذلك أن مركز الشمس سيدور حولَ مركز الكتلة وينشأ ارتجاج في الشمس أثناء دورانها حول نفسها، يُدرس مسقطه في بُعدين، ويُسمّى التذبذب الشمسي! فإذا كانت هذه الكواكب تؤدي إلى ارتجاج الشمس مع كونها كالهباء بالنسبة إليها، ومع كون الشمس منتظمة الكتلة زاويًّا، وكتلتها الأثقل أقرب للمركز قطريًّا، فالجبال أولى بالتأثير في حركة الأرض. (26).

ولا ريب أن العمدة على انتظام كتلة ستار الأرض وصلابة قلبها وكثافتهوهذا لا سبيل لنا لمعرفته سوى استنتاجه من انتظام دوران الأرض وسلاسته. (27)، لكن اختلافات الكثافة لمقاطع الأرض وحركة صهارتها والبحار على سطحها تُحدث فرقًا، فلا بدّ من أوتاد ترسو بها الأرض، والجيوفيزيائيون يدرسون احتكاك صهارة الأرض مع باطن القشرة بناء على نماذج مفترضة مأخوذة من استقرار الأرض، وبحوثهم مستمرة، والمهم هنا تعريفهم للنسبة (k) التي هي نسبة عزم القصور الأرضي على كتلتها في مربع نصف قطرها، هذه النسبة للكرة المصمتة 0.4 وللأرض 0.33 مما يدل على أن الأرض تنزاح عن الانتظام الكروي مما يحوجها لمراسي تثبتها أن تميد، هذا وتذكّر ضآلتنا نحن على هذه الأرض وتأثرنا بأدنى اضطراب.

والله تعالى أعلم، والحمد لله ربّ العالمين.

شارك المحتوى: