منزلة الوعظ في السّجالات العقدية

منزلة الوعظ في السّجالات العقدية

بقلم: د. السعيد صبحي العيسوي


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلئن كان الوعظ وما ارتبط به يحتلُّ مكانةً دينيةً في تذكير العبد العواقب، وبعث الخير في النفوس، وإعادة توجيهها إلى الله وإلى طريقه، ودفعها إلى التمسك والثبات على الدّين، والعمل للآخرة، إلا أنه في أدبيات السجالات العقدية مع التيارات الإلحادية أو الفلسفية أو حتى الكلامية، وفي النقاشات التي يُراد منها دفع الـمُبطل لمراجعة نفسه، والعودة إلى الحق؛ يلاحَظ عدم حضور الوعظ فيها، مع أهميته.
والمتأمل لسياق الخطاب الذي استعمله الأنبياء والرسل عليهم السلام مع المخالفين من أهل الكتاب، والصابئة، والوثنيين، وغيرهم، يجده مشتملاً على براهين وحجج العقل، وعلى مادة من الوعظ الحسن الموقظِ للمعاني الخيرية، الكابح لمعاني الشر.
فالوعظ أحد أساليب الدعوة إلى الله الرئيسة، كما قال تعالى: ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ‌بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ [النحل: ١٢٥]. ولا شك أن الرد على المخالف في العقيدة، ومن حكّم هواه في الشريعة من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، فيُستعمل معه الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، إن تطلّب الأمر.
يقول ابن القيم رحمه الله: «فذكر سبحانه مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو:
فإنه إمَّا أن يكون طالباً للحق راغباً فيه محباً له مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا يُدْعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظةٍ ولا جدالٍ.
وإمَّا أن يكون مُعْرِضاً مُشتغِلاً بضدِّ الحقِّ، ولكن لو عُرِّفَه عَرَفَه وآثره واتَّبعه، فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب.
وإمَّا أن يكون مُعانداً مُعارضاً، فهذا يُجادَل بالتي هي أحسن، فإن رجع إلى الحقِّ وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكنالصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ٢/ ٨٦٤. (١)».

ماهية الوعظ:
أصل الوعظ في اللغة: التخويف والنصح والتذكير بـالعواقبمقاييس اللغة، ابن فارس، ٦/ ١٢٦، ولسان العرب، ابن منظور، ٧/ ٤٦٦. (٢)، ثم عُمِّم في الحضّ على ما له ثوابينظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده، ٢/ ٣٣٣، كتاب الأفعال، ٣/ ٣٠٩، والمطلع على أبواب المقنع، البعلي، ص ١٤٠، وتحفة الأريب بما في القرآن من الغريب، أبو حيان الأندلسي، ص ٣١٧، ومعجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر ٣/ ٢٤٦٨، والمعجم الاشتقاقي المؤصل، محمد حسن جبل ٣/ ١٤٨٧. (٣)، و«‌الوعظ: حثٌّ بما فيه تليين القلب؛ للانقياد إلى الحق. والوعظ: زجر عما لا يجوز فعله بالخيرتفسير ابن فورك، ١/ ٢٥٢. (٤)».
والوعظ يدور حول أمور، منها:
١- التذكير بالعواقب، والتخويف من سوء العاقبة.
٢- التذكير بالخير، واستجلاب ما يُصلح النفوس.
٣- التذكير بالله، وبالتوبة والإنابة.

 أهمية الوعظ في السجالات العقدية:
تظهر أهمية الوعظ في السجالات العقدية في أنها تزيل أسباب عدم الانقياد للحق؛ فالوعظ يحول دون أن يكون العبد أسيراً للهوى، وهو -أي: الهوى- مانع من موانع الانقياد للحق.
والموعظة تَحُول دون وقوع العبد أسيراً للشهوة؛ بتذكير ونصح وتطهير وتنمية للنفس، والارتقاء بها، فلا يكون شغل العبد إشباع الشهوة والنزوة، بل يضبطها بلجام الشرع، فإنه إذا خُلِّي العبد وشهواته؛ فإنه في الأغلب سيفسُد ميزانُه، وتختلُّ عنده معايير القبول والردّ والمنع والمعارضة؛ لأنها قد صارت سداً، بل سدوداً بين القلب وقبوله للحق والوحي، والفكاك من قبضة الشهوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والموعظة الحسنة: تجمع التصديق بالخبر والطاعة للأمر؛ ولهذا يجيء الوعظ في القرآن مراداً به الأمر والنهي بترغيب وترهيب. كقوله: وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا ‌يُوعَظُونَ بِهِۦ [النساء: ٦٦]، وقوله: يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا [النور: ١٧]، وقوله: فَجَعَلۡنَٰهَا ‌نَكَٰلٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةٗ [البقرة: ٦٦]. أي: يتعظون بها فينتبهون وينزجرونمجموع الفتاوى، ٢/ ٤٥ (٥)».
وهذا ينقلنا إلى دور الوعظ في ضبط الميزان العقلي؛ فإن الإنسان إذا تُرك وعقلَهُ ومستحسناته فإن مادة الهوى قد تشوّش ميزانه؛ والهوى لن يدلَّه على المطلوب الشرعي؛ لأن العقل ليس آلة بحتة يجري عملها على وزان قسط مستقيم، فقد يحكم بالهوى.
يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: «صاحب الهوى إذا دخل قلبَه، وأُشرب حبّهُ، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه. واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء: كمعبد الجهني، وعمرو بن عبيد، وسواهما... وحاصل ما عوّلوا عليه تحكيم العقول المجرّدةينظر: الاعتصام، ٢/ ٧٧٨- ٧٧٩. (٦)...».
وإذا تأمّلنا آيات محاجَّة الوثنيين؛ يذكر الله تعالى ما أعدَّه لأهل الإيمان، وما أنزله بأهل الكفران، في سياق وعظي بالتذكير بالجنة والنار؛ ناصٍّ على الإشكالية الكبرى التي كانت سبب انحرافهم الفكري؛ وهي اتباع عقولهم للأهواء؛ فيقول تعالى: كَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةٗ مِّن قَرۡيَتِكَ ٱلَّتِيٓ أَخۡرَجَتۡكَ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ فَلَا نَاصِرَ لَهُمۡ أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ كَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُم [محمد: ١٣-١٥].
وتأمل دلالة الأمر والنهي المغلَّف بقالب من الوعظ والإيمان، والتحذير من أهواء العقول: وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن ‌يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ [المائدة: ٤٩].
فالعقل ليس من مَهَامّه إيجاد حكم الله ورسوله ﷺ، وإنما فَهمُ ما نَزَل من الوحي، وتأكيد ما أثبته الوحي، أو قد يقف عاجزاً أمام ما يأتي به الوحي من قضايا الغيب التي تَحَار فيها العقول ولا تُحيلها، فتأتي الموعظة هنا لضبط العقل بميزان الشرع، وأنْ يُحَثّ مَنْ تُسدى إليه الموعظة بأن يجعل الدِّين مُقدَّماً لديه على ما تهواه النفوس، وما تستحسنه العقول، وليس هذا تقليلاً من شأن العقل، وإنما تنبيه على منزلته من الوحي، فالعقل وما يجري في الخاطر قد يلتبس لدى كثير من الناس أنه من مسلّمات العقول: كعدم التناقض، والسببية، وغيرها، فليس هو القواعد المطَّردة التي لا تتخلّف، وإنما ينطلق العقل من القواعد العامة التي أُدخلت فيه؛ فهو قد يتأثر بالهوى، وتحرّكه العاطفة والحالة المزاجية، ويستعين بالملابسات والقرائن.
وكم من شاردٍ في هذه الحياة وبعيد عن الشرع ودين الله، وهو راكب لمتن الهوى والطغيان العقلي، ويعبد هواه؛ إذا وُجِّهت إليه الدلائل أَتَى بمشغِّبات جدلية وسفسطة، تُظهِر التمويهات والخرافات في صورة مُبرهنة، فحينها لن يحدّثك عن اتباع هواه، وأنه يعبُد ما يمليه عليه عقلُه، بل سيحدّثك عن دلائل وبراهين.
فهو يراها براهين ودلائل، لكن أصحاب البصيرة والهُدى يرونها من أفسد ما يكون؛ يرونها أهواء؛ إذ لم يدل واحد منها على الله! ولا على اتباع طريق الوحي والنور الذي أنزله الله! وصدق الله: بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَهۡوَآءَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٖۖ فَمَن يَهۡدِي مَنۡ ‌أَضَلَّ ‌ٱللَّهُۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ [الروم: ٢٩].
ويقرر الشاطبي: «إذا دخل الهوى أدّى إلى اتباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوىالموافقات، ٥/ ٢٢١. (٧)».
ولا شك أن «المتخبّط في ظلمات الهوى، والمتردّي في مهاوي الهلكة، والمتعسّف في المقال؛ لا يوفَّق للعود إلى الحق، ولا يرشد إلى طريق الهدى، ليُظهر وعورةَ مسلكِهِ، وعزَّ جانبه، وتأبـّيه إلا على أهله كَذَٰلِكَ ‌زَيَّنَّا ‌لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ [الأنعام: ١٠٨الانتصار لأصحاب الحديث، السمعاني، ص ١-٣. وينظر: التسعينية، ابن تيمية، ٢/ ٥٤٨- ٥٤٩. (٨)]».
فهذا النوع يحتاج إلى الوعظ والنصح والتذكير بأنوار الهدى والوحي الذي أنزله الله، ولذلك كله أثر في النفوس الشاردة، وإزالة الران والقفل والغشاوة التي أحاطت بالقلوب.
لذا يقول شيخ الإسلام عن النفس؛ إذا تأملتها تجد أنَّ «لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق، وإنْ عرَفَتْه، فالناس يحتاجون إلى ‌الموعظة الحسنة، وإلى الحكمة، فلا بد من الدعوة بهذا وهذا. وأما الجدل فلا يُدعى به، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحقَّ معارضٌ جُودل بالتي هي أحسنالرد على المنطقيين، ص ٣٩٢. (٩)».
أساليب الوعظ المفيدة في السجالات العقدية:
تتنوع أساليب الوعظ المفيدة في السجالات الفكرية باعتبار مادتها، فمنها:
١- الوعظ بالمعاني الفطرية: وذلك بإثارة المعاني الفطرية المغروسة في النفوس، كحب الخير والصدق والعدل، وكراهية الشر والكذب والظلم، وربطها بالدِّين والإيمان والاستعداد لليوم الآخر، والتوبة والإنابة إلى طريق الله تعالى.
والفطرة المستقيمة إذا لامست شغاف القلب الحي طاشت معها موازين الجدل والتقليد والمعارضات العقلانية؛ فإن نور الفطرة يدعم أنوار الوحي. فإذا أشرقت شمس الفطرة وحججُها في قلب العالِـمِ فَعَلتْ به الأفاعيل، وأعملت فيه انتباهة لما كان عنه غافلاً، ومهّدت قلبه ليَقَرَّ فيه معين الوحي الرويّ، وسلسبيل الفطرة النقيّ.
ومن ذلك قصة أبي المعالي الجويني مع الهمذاني، فقد ذكر أبو المعالي في مجلسٍ نَفْيَ علو الله على خلقه -علو الذات-؛ وأنَّ المراد بذلك علو القهر وعلو القدر. أو قال: «كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان» على اختلاف في أداء عبارته، فقال له أبو جعفر الهمذاني: يا أستاذ! أخبرني عن هذه الضرورة التي أجدها في نفسي، وهي أني أطلب العلو إذا احتجت إلى الله عز وجل.. فقال أبو المعالي: «حَيَّرَنِي الهمذاني، حيّرني الهمذانيلمقيِّده بحث مختصر بعنوان: «حيّرني الهمذاني». وفطرية الاستدلال على علو الله، قراءة تاريخية تحليلية للقصة والسِّجال السَّلفي الأشعري حولها. "يصدر قريباً". (١٠)».
٢- الوعظ بالنقل من الوحي: وذلك بأدلة وبراهين من الكتاب والسنة، وقصص أخبار من سبق من الأمم، فتؤخذ منه العبرة والعظة، ويحرّك المشاعر ويهيّجها إلى الإيمان وإيقاظ الوازع الإيماني، ويوقظ الخير في النفوس، ويكبح جماح الشهوات والغضب والنظرة الدونية للآخر، ويهذّب النفوس بالوحي.
روي عن القاضي شريح رحمه الله أنه قال يوماً لمن عنده: «أرأيتم لو جاءكم ملَك بوحي من السماء، حتى إذا كان بحيث يُسمعكم الصوت افترش أجنحته، ثم قال: يا أيها الناس! لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن ‌تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا [النساء: ٢٩]. أوما كنتم فاعلين؟ قالوا: كنا والله متناهين. فقال: فقد جاءكم بها مَلَكٌ! أكرم ملائكة الله عليكم إلى أكرم أهل الأرض عليهأخبار القضاة، وكيع، ٢/ ٢٢١. (١١)».
٣- الوعظ بالتذكير بالنعم والآلاء: ومن ذلك محاورات الأنبياء عليهم السلام، بالتنبيه بالوعظ والتذكير بالعاقبة، وتخويف الأمم من مَغبّة المخالفة، كقول صالح عليه السلام: وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَآءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادٖ ‌وَبَوَّأَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورٗا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُيُوتٗاۖ فَٱذۡكُرُوٓاْ ءَالَآءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ [الأعراف: ٧٤].
ومن ذلك ما حكاه الله تعالى من دعوة هود عليه السلام، وذكر أنّ وعظه لهم اشتمل على تذكير بالنعم والآلاء، فقال: وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيٓ ‌أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنۡعَٰمٖ وَبَنِينَ وَجَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡنَآ أَوَعَظۡتَ أَمۡ لَمۡ تَكُن مِّنَ ٱلۡوَٰعِظِينَ [الشعراء: ١٣٢-١٣٦].
٤- التذكير بالتوبة وتصحيح الطريق إلى الله تعالى: فهذه الدعوة إلى التصحيح الموجّهة لأصحاب المذاهب المنحرفة والهدّامة من أنفع ما يكون استلالاً لمادة الزيغ من قلوبهم، وهذه طريقة قرآنية، ففي سياق مخاطبة النصارى، ونقد تأليههم لعيسى عليه السلام قال الله تعالى: لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ‌ثَالِثُ ‌ثَلَٰثَةٖۘ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّآ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ وَإِن لَّمۡ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ٧٣ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَيَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ [المائدة: ٧٣-٧٤].
فالوعظ سبيل ليصححوا المسار المنحرف الذي سلكوه، وفيه دعوة إلى إعادة بناء الأدلة العقلية على معيار صحيح منضبط بهدى الله الذي أنزله.
والوعظ يراد به كذلك تصحيح المسلك العملي؛ فهو أمر ونهي مقرون بترغيب وترهيب. يقول تعالى: وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٞ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُواْ مَا ‌يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِيتٗا [النساء: ٦٦].
وسُمِّي هذا التكليف والأمر وعظاً؛ لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والثواب والعقاب، وما كان كذلك فإنه يسمى وعظاًمفاتيح الغيب، الرازي، ١٠/ ١٧٣. (١٢).
 ٥- استلال مادة النفاق من القلب بالوعظ: كما قال تعالى: أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ ‌وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا [النساء: ٦٣]. أي: عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلَّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسولهجامع البيان، الطبري، ٧/ ١٩٧. (١٣) ﷺ.
٦- التذكير بنصرة الله لأهل الحق، ووضع القبول لهم في الأرض:
فأهل الحق منصورون، مختبرون بالبيان، وتأدية الحق، وتبليغه، والدفاع عنه، ونصرته، ولهم القبول في الأرض وإن ابتلوا فيه أو كانت للباطل جولة، فإن المآل والعاقبة للمتقين.
يقول تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ‌ٱلۡأَشۡهَٰدُ [غافر: ٥١]. وقال سبحانه: وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن ‌يَنصُرُهُۥٓۚ [الحج: ٤٠].
 وعن ثوبان رضي الله عنه: قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلكصحيح مسلم، رقم (٤٩٨٨). (١٤)».
وبوّب الإمام البخاري في صحيحه: «باب قول النبي ﷺ: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون))، ‌وهم ‌أهل العلمصحيح البخاري، ٩/ ١٠١. (١٥) ».
وقال علي بن المديني: «هم أصحاب الحديثسنن الترمذي، ٤/ ٤٨٥. (١٦)».
يقول ابن حجر: «المراد بالوصف المذكور أهل السنة والجماعة، ‌وهم ‌أهل ‌العلم الشرعي، ومَنْ سواهم ولو نُسِبَ إلى العلم فهي نسبة صوريّة، لا حقيقيةفتح الباري، ١٣/ ٣١٦ (١٧)».
فالعبد إذا آمن بالله تعالى، وحقَّق ذلك في كل أمره، علماً وعملاً، واستجابة وتحكيماً، واستدلالاً، أيَّده الله ونصره وأعانه، «فمن نقص إيمانه نقص نصيبُه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أُصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوّه عليه، فإنما هي بذنوبه؛ إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو مِن نقص إيمانهإغاثة اللهفان، ابن القيم ٢/ ١٨٢. (١٨)».
٧- التذكير بما وقع من الحيرة والتذبذب لأهل الباطل في معتقداتهم وأفكارهم:
فمن أساليب الوعظ التي استخدمها العلماء، تذكير المبطِل بما يعانيه هو في نفسه ويؤرّق فطرته وضميره من الشك والتناقض، وبعث ذلك وسبكه مع داعي الشرع بالتسليم للوحي.
وقد تواترت النقول والحكايات عن أفاضل وقعوا في شكوك وحيرة لما جفوا أنوار الوحي، وهم في أواخر عمرهم وفي سياق الموت قد أعلنوا حيرتهم، ومنهم من كان حاذقاً منصفاً غرضه الحق، وفي آخر عمره يصرّح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في جدلياته مقنعاً لتحقيق إيمان سديد سالم، ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب؛ وكثيراً ما يؤدي الخوض في علم الكلام إلى الشك والوقف والحيرة، والتي قد يكون من آثارها زيغ القلوب.
كما قال أبو المعالي وقت السياق: «لقد خضت البحر الخِضمّ، وخلّيت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي».
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقرّ أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم. 
وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، يقول: "قد أشار عليّ مَن إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها          وسيَّرتُ طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر          على ذقن أو قارعا سن نادم».

وكذلك الآمدي، الغالب عليه الوقف والحيرة. وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد، بل في الموضع الواحد منه، ينصر قولاً، وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه. ولهذا استقرّ أمره على الحيرة والشك ينظر: منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، ٥/ ٢٦٨- ٢٧١، وفيات الأعيان، ابن خلكان، ٢ / ١٦١، والعقود الدرية، ابن عبد الهادي، ص ٨٩، والذهبي، العلو للعلي الغفار، الذهبي، ص ٢٥٨، الوافي بالوفيات، الصفدي، ١٢/ ٢٥٣، العواصم والقواصم، ابن الوزير ١/ ١٥. (١٩).
وختاماً؛ فإنَّ الوعظ كما هو مفيد لأهل الإيمان، فإن له تأثيراً كذلك على المخالِف الـمُشتغِل بهواه وشهواته، كحال كثير من أهل الأهواء.
ولمّا كان من غايات الوعظ تصويب خطأ الغير، ومحاولة تكميله، مع التماس العذر له، وغير ذلك، فإن اشتماله على مواد خطابية وشعرية في مقام البرهنة مقبول، وليس تلاعباً بالمشاعر، كما قد يظنُّه البعض.
يقول شيخ الإسلام: «وليس الأمر كما يتوهَّمه الجهال الضلال من الكفار المتفلسفة وبعض المتكلمة من كون القرآن جاء بالطريقة الخطابية، وعَرِي عن البرهانية، أو اشتمل على قليلٍ منها، بل جميع ما اشتمل عليه القرآن هو الطريقة البرهانية، وتكون تارة خطابية، وتارة جدلية، مع كونها برهانيةمجموع الفتاوى، ٢/ ٤٦. (٢٠)».
وإذا تأملنا خطاب الأنبياء لأقوامهم نجد الوعظ مقترناً بالبرهان، كما في قوله تعالى: أَمِ ٱتَّخَذُوٓاْ ءَالِهَةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ هُمۡ ‌يُنشِرُونَ لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء: ٢١-٢٢]، ففيها تهويلٌ وإشعالٌ للبراءة في نفوس هؤلاء للنفرة من هذه العقيدة المنحرفة، فهذا من جنس الأسلوب الخطابي الوعظي في القرآن.
ومن ذلك أيضاً: خطاب جمع من الأنبياء كنوح وعاد وهود عليهم السلام لأقوامهم بتذكيرهم بتقوى الله، كما في قول الله تعالى: قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۚ أَفَلَا ‌تَتَّقُونَ [الأعراف: ٦٥].
إننا إذا تأملنا نصوص الوحي سنجد أن الوعظ والترغيب والترهيب جلاء الهوى، وينقّي النفس مِن غوائلها، وهذا من شأنه أن يُقصِّر أمد الجدل، ويقلّل من الدعاوى، ويردّ الواعظ والموعوظ إلى أنوار الوحي، وإلى صريح العقل، ومقتضى الفطرة النقية، بسياط التذكير والتخويف من عاقبة التمادي، ويربّي الإنسان على التجرد من أسر الهوى والشهوات، وتقديم العقل على الوحي.

شارك المحتوى: