خطبة (ذلك ربُّ العالمين)

خطبة (ذلك ربُّ العالمين)

عنوان الخطبة: ذلك ربُّ العالمين

عناصر الخطبة:

١- معنى ربوبية الله لخلقه.

٢- استلزام الربوبية إفراد الله بالعبادة.

٣- أصل الشِّرك تسوية الربِّ بخلقه.

٤- من خصائص الربّ إفراده بالأمر والحكم والتشريع.

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ربِّ السماوات والأرض وما بينهما وربِّ العرش العظيم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

عبادَ الله:

كان من ثَناءِ نبيِّنا ﷺ على ربه قولُه: «اللَّهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَلِكَ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهَ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكَ كُلُّ شَيْءٍ» مسند أحمد (٥٩٨٣)، وصححه الألباني في صحيح موارد الظمآن (٢٠٠٢). (١)

أخا الإسلام:

اللهُ ربُّ العالمين، ربُّك وربُّ كل شيء.

ربُّ الملائكة، وربُّ الإنس والجن، وربُّ الطيرِ والوَحْش، وربُّ الشجر والحجر، ربُّ النجوم والشمس والقمر.

وقفَ موسى أمامَ فرعون لعنه الله، يدعوه إلى الله تعالى، فقال فرعون متبجِّحًا: ‌وَمَا ‌رَبُّ الْعَالَمِينَ؟

فأجابه موسى عليه السلام: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء: ٢٣-٢٤] 

أتدري ما معنى ربّ العالمين؟

كلُّ شيء، مِن أيِّ عالَمٍ كان، عالَمِ الملائكة، أو عالمِ الإنس، أو عالَمِ الجن، أو عالَمِ الوحش والطير.

شجرٌ أو حجر، شمسٌ وقمر، أصغرُ من ذلك أو أكبر، أيُّ شيء كان، فاللهُ ربُّه.

هو من خَلَقهُ وأنشأهُ وأوجَدهُ وفَطَره وأبدعه، وهو من يملِكُه، ناصيتُه بيده، تحت قَهره وقُدرته، وهو من يقومُ عليه، يدبِّرُ جميعَ أمره، يَسمَعُه ويُبصِرُه، حفيظٌ شهيدٌ وكيلٌ عليه، يَرزُقُه ويُصلح شأنَه، يهديه إلى ما فيه صلاح حياته وقِوام أمره.

لا يَشغَلُه سُبحانَه مخلوقٌ عن غَيرِه، فهو في آنٍ واحدٍ ربُّ كلِّ العالمَين.
 

أترى تلكَ النَّملةَ الصغيرةَ التي خرجَت من جُحرِها تبحثُ عن طعامِها؟

أترى ذاكَ العُصفورَ الذي غدَا مِن عُشِّه جائعًا؟

أترى ذاكَ العبدَ المتضرِّعَ في محرابه سائلًا؟

أترى تلكَ السماواتِ العُلا، وما فيها من موضعِ أربعِ أصابعَ إلا وترى مَلَكًا ساجدًا؟

كلُّ هؤلاء: ربُّـهم الله، يدبِّر أمرَهم كلَّه، لا يَغيبُ ولا يَضِلُّ ولا ينسَى ولا يعجِز.
 

قال ربُّ العالمين: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ ‌رَبُّكُمُ الْحَقُّ [يونس: ٣١-٣٢].
 

إخوةَ الإسلام:

إنَّ من عظيمِ رُبوبية الله أنه يجيبُ خَلْقَه، يُطعمهم ويَسقيهم، ويَرزقهم ويُعافيهم، يَسمع دعَواتهم، ولا يُخيِّب رجاءَهم، فعجبًا لعبدٍ يشقى وربُّه الله جل جلاله!

ألم تسمعْ قولَ زكريا عليه السلام: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ ‌شَقِيًّا[مريم: ٤]؟

أولم يقُمْ نبيُّنا ﷺ وأصحابُه يومَ بدر يستغيثون ربهم، فقال الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ‌رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال: ٩]؟

ومن ربوبيته أنه لم يترك خلقَه سُدًى، بل تولّاهم فأنزل إليهِمُ الكتبَ وأرسلَ إليهم الرسلَ، هدايةً ونورًا، وموعظةً وشفاءً لما في الصدور.

هكذا عرَّف إبراهيمُ قومه بربِّه قائلًا: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٥-٧٨].

لأنه ربٌّ، هدى جميع خلقه إليه، دلهم عليه، وعرفهم به، وبيّن لهم أعظم البيان وأفصحه.

قال ربُّ العالمين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[يونس: ٥٧].

وقال ربُّ العالمين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا[النساء: ١٧٤].

ولأنّه ربُّ العالمين، الأعلمُ بخلقه من أنفسِهم، شرعَ لهم دينًا قيِّما، يَسيرًا لا عُسْرَ فيه ولا حَرَج.

ألم تسمعْ قولَه تعالى: ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ ‌رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة: ١٧٨]؟

 

عبادَ الله:

إنَّ ربوبيةَ اللهِ لجميعِ خلقِه تستدعي عبوديةَ الخلقِ له وحدَه لا شريكَ له.

ما أعظمَ سيِّدَ الاستغفار الذي علمنا إياه رسول الله ﷺ، قائلًا في فاتحته: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ .. »صحيح البخاري (٦٣٠٦). (٢)

هكذا: أنتَ ربي، وأنا عبدك!

إن كلَّ أثوابِ الربوبيةِ التي ألبَسَها الناسُ للمخلوقينَ أثوابُ زورٍ وبُهتان، فهم عبيدٌ مقهورون، نواصيهم بيد الله، لا غِنًى لهم عنه سبحانه طرفةَ عين.

إنّهم أربابٌ متفرقون، شَقِي بهِمُ الناس، هذا يخافونه، وذاك يرجونه، وآخَرُ يَدْعونه ويستغيثونه، وذاك يحتكمون إلى تشريعه ويتَّبعونه.

شَقِيَ الخلقُ يوم أن ضَلُّوا عن ربِّ العالمين، فذلُّوا لغيره يومَ أن تعلَّقت قلوبُهم بعبيدٍ مثلِهم، أسماءٌ لا حقيقةَ لها سوى أنهم عبيدٌ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضَرًّا.

قالها يوسفُ عليه السلام لمن رافقاه في سجنه: َأَرْبَابٌ ‌مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [يوسف: ٣٩-٤٠].

أما المؤمنُ فعُنوانُ حياتِهِ كما قال الله تعالى: ‌قُلْ ‌إِنَّ ‌صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ١٦٢-١٦٤].

 

عبادَ الله:

لقد كانت أعظمُ الجرائمِ في هذه الأرضِ الشِّركَ بالله؛ أن يجعلَ العبدُ لله شريكًا ونِدًّا وعِدلًا، يعبدُه ويخضع له مع اللهِ ودونَه.

إنّهم سيَجْأَرونَ نادِمين، مُقرِّينَ على أنفسهم يوم القيامة عندما يُسألون: وقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ ‌نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: ٩٢-٩٨].

أيُّ عقلٍ وأي قلبٍ هذا الذي يسوِّي بينَ الخالقِ والمخلوق، وبينَ الربِّ والمربوب، وبينَ الفاطرِ والمفطور؟

تأمَّلْ.. هؤلاءِ الذينَ جَعلُوا المسيحَ عيسى عليه السلامُ ربًّا وإلهًا معَ الله، ألَـمْ يقُلْ لهُم عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي ‌وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[آل عمران: ٥١]؟!

 

يا عبد الله:

إنَّ أوَّلَ سؤالٍ تُسأل عنهُ في قبرِك: مَن ربُّك؟

فإنْ كان العبدُ في الدنيا موقِنًا مؤمنًا مقرًّا بأنَّ اللهَ ربُّه وربُّ العالمين فلم يعبدْ غيره، ثبَّته الله في قبرِه، وأجاب غيرَ فَزِعٍ ولا مَشْغوف: ربِّيَ الله!

وحينئذ تقول له الملائكة: «عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ، وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ». مسند أحمد (٢٥٠٨٩)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (٣٤٤٣). (٣)

أمَّا من عاشَ على الشَّكِّ حائرًا بين أربَابِ الزُّور، فإنَّه سيقول: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي.

فنسألُ الله السلامة والعافية.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 أما بعدُ، فاتّقوا الله عباد الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصُوه.

إخوة التوحيد والعقيدة:

إنّ من خصائص ربِّ العالمين أنَّ له الأمرَ وله الحكم.

قال الله: إِنَّ ‌رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: ٥٤].

فكما لم يخلُقْ غيرُه، لا يأمرُ غيرُه، ولا يحكمُ سواه.

ولذلك فكلُّ مَن جعلَ لنفسهِ الحقَّ في أن يأمُرَ معَ أمرِ الله، أو يشرَع معَ شرعه، أو يحكُمَ معَ حُكمه، فأحلَّ ما حرَّمه الله، أو حرَّم ما أحلَّه الله، أو شرَع ما لم يأذَن به الله، فقد جعل نفسَه ربًّا مع الله، وكلُّ من أطاعه وأعطاه الحقَّ في ذلك، فقد جعلَه ربًّا مع الله.

فعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، فَطَرَحْتُهُ فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ[التوبة: ٣١] حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: إنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونُهُ، ويُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟» قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ». المعجم الكبير (١٧/٩٢)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (٣٢٩٣). (٤)

اللّهمَّ ربَّنا اغفر لنا ذُنوبَنا، وإسرافَنا في أمرنا، واعفُ عنّا، وأصلِح قلوبنا.

اللّهمَّ انصُر عِبادَك الموحّدين، ودَمِّر اليهودَ القتَلةَ الـمُجرِمين، ونجِّ برحماتك عبادَك المستضعَفين.

اللّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلِح أئمّتَنا وُولاةَ أمورِنا، واجعل وِلايتَنا فيمن خافَكَ واتّقاكَ واتّبع رِضاك.

عِبَادَ الله: اذكرُوا اللهَ ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوهُ بُكرةً وأصيلًا، وآخرُ دَعوانا أَنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

 

 

شارك المحتوى: